Saturday, March 20, 2010

البطريركية المسكونية والدولة

شكلت البطريركية المسكونية وبطريركها مادة صحافية في الاشهر المنصرمة بعد حديث للبطريرك المسكوني برثلماوس الاول لمحطة "سي بي أس" ضمن برنامج "ستون دقيقة" تناول فيه واقع البطريركية المسكونية والصعوبات التي تعترض الأقلية الأرثوذكسية من اصل يوناني في تركيا. وقد تناقلت الصحافة العالمية واللبنانية مضمون حديث البطريرك بكثير من الانتقائية، اذ أوحت بعض الصحف في مقالاتها بأن البطريرك المسكوني الحالي ربما يكون "آخر بطريرك مسكوني ارثوذكسي"، الأمر الذي يشوه بالتأكيد ما صرح به البطريرك المسكوني نفسه عندما اكد انه وبالرغم من شعوره بالمصلوبية فهو يؤمن بالقيامة وبالمعجزات، معتبراً بأن كنيسته ترفض التعامل بحتمية مع المعطيات التاريخية، ومبيناً أن كنيسة القسطنطينية كانت وستبقى حيثما هي الآن، لأن تاريخ هذه الكنيسة تاريخ صمود، ولأن ارض تركيا هي ارض مقدسة تماماً كما القدس. موقف البطريرك هذا يأتي استمراراً لمواقف اسلافه، ولاسيما البطريرك اثيناغوراس، الذي تشبث بالبقاء في تركيا، بالرغم من مطالبة العالم الارثوذكسي له بالرحيل، اثر التضييق الذي تعرض له والصعوبات التي عانى منها في اواخر عهده.
بالطبع، لا احد يجهل، ان صعوبات كثيرة واجهت وتواجه البطريركية المسكونية والقائمين عليها منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا هذا. وقد مرت علاقة هذه البطريركية بالحكومة التركية بمراحل صعبة تراوحت بين القطيعة التامة، والاعتراف الضمني، والتنسيق الخفر، بحيث يمكن الجزم بأن الاقلية الارثوذكسية اليونانية في تركيا كانت دائما ضحية للصراع اليوناني التركي، وقد دفعت ثمنه غالياً في الكثير من الاحيان.
ويشكل تناقص عدد الارثوذكس المقيمين في تركيا اهم مشكلة تعاني منها البطريركية المسكونية في ايامنا الحاضرة. ويأتي هذا التناقص كنتيجة مباشرة لتبادل السكان الذي حصل في العام 1923، والتهجير الذي طاول الاقلية اليونانية في اسطنبول بعد التنكيل الذي تعرضت له في ايلول 1955، بالاضافة الى نزيف الهجرة المتواصل منذ مطلع القرن الماضي. فمن اصل خمسة آلاف ارثوذكسي يحملون الجنسية التركية حالياً، ترعى البطريركية المسكونية في الوقت الحاضر حوالى ثلاثة آلاف مؤمن، بينما ترعى البطريركية الانطاكية، بواسطة ابرشية حلب، القسم المتبقي منهم وغالبيتهم من المقيمين في لواء الاسكندرون.
وبالاضافة الى تناقص عدد المؤمنين، تعاني البطريركية المسكونية، منذ العام 1923 وحتى ايامنا الحاضرة، من القيود التي فرضتها عليها الحكومات التركية المتعاقبة، والتي غالبا ما تجاوزت احكام اتفاقية لوزان، او جنحت في تفسير احكام هذه الاتفاقية. ومن بين القيود التشريعية والممارسات التي عانت وتعاني منها البطريركية المسكونية نذكر:
1- حصر انتخاب البطريرك المسكوني ومطارنة الابرشيات التركية بمجمع يتألف من المطارنة الذين يحملون الجنسية التركية دون سواهم. واشتراط ان يكون المنتخب (بفتح الخاء)، من الجنسية التركية ومقيما في تركيا حيث يمارس خدمته (بموجب مذكرة رقم 1092، تاريخ 6 كانون الاول 1923).
2- تدخل السلطات التركية في عملية انتخاب البطريرك من خلال ممارسة حق استبعاد بعض الاسماء من لائحة المرشحين للبطريركية او من خلال عدم الاعتراف بالبطريرك المنتخب وفقا لأحكام القانون الصادر في كانون الاول من العام 1934 والذي يعطي الحق للحكومة التركية بالاجازة لرؤساء الطوائف فقط بارتداء اللباس الديني خارج اماكن العبادة.
3- عدم الاعتراف بالطابع المسكوني للبطريركية، واعتبار البطريرك المسكوني رئيسا لطائفة الروم الارثوذكس في تركيا فقط.
4- اعتبار البطريركية مؤسسة ذات طابع ديني، مقرها الفنار، وحصر دورها برعاية الشؤون الدينية فقط لأبناء طائفة الروم الارثوذكس الذين يحملون الجنسية التركية.
5- عدم الاعتراف بالشخصية القانونية للبطريركية مع ما ينتج عن هذا الأمر من مفاعيل تشمل عدم الاجازة للبطريركية بالتملك وبادارة الاوقاف التابعة لها، وعدم قدرة البطريركية على الاستحصال على اجازات عمل لموظفيها الذين لا يحملون الجنسية التركية، بالاضافة الى تجريد البطريركية من الاملاك التي تعود لها.
6- اقفال معهد خالكي في العام 1971، وعدم السماح للبطريركية باعادة فتحه مع ما ينتج عن هذا الامر من اعاقة قدرة البطريركية على اعداد الاكليريكيين للخدمة فيها.
بالطبع، لقد سببت القيود التي استعرضنا وهناً اكيداً للجماعة التي ترعاها البطريركية المسكونية، وقد نتج عنها في الكثير من الاحيان تقييد لدور البطريركية واضعاف لشهادتها على الصعيدين المحلي والعالمي. ولكن المطّلع على تطور الامور منذ العام 1923 وحتى يومنا هذا لا يمكنه الا ان يسجل ايضا ان العلاقة بين البطريركية المسكونية والحكومة التركية قد عرفت تقدماً ملموساً في بعض الميادين خلال السنوات الاخيرة. وفي هذا المجال لا بد من الاضاءة على الامور التالية:
1- لقد حصرت الحكومة التركية العلاقة بينها وبين البطريركية المسكونية في مرحلة اولى بمحافظ اسطنبول معتبرة ان البطريركية ليست سوى مؤسسة دينية تابعة لمدينة اسطنبول، ولكن هذه العلاقة سرعان ما انتقلت الى وزارة الداخلية، وما لبثت ان تطورت مع مرور الايام لتصبح مع الحكومة المركزية في انقرة التي هنأ رئيسها وكبار مسؤوليها، ولأول مرة، البطريرك بنيامين (1936 - 1946) اثر انتخابه بطريركياً. وقد زار رئيس الوزراء التركي لاحقا البطريرك اثيناغوارس (1948 - 1972) في مقره في الفنار. واخذت وزارة الخارجية ومنذ عهد البطريرك ديمتريوس (1972 - 1991) تنسق مع البطريركية في ما يتعلق بزيارات البطريرك الى الخارج. وفي ايامنا الحالية تتكثف زيارات البطريرك برثلماوس للمسؤولين الاتراك على مختلف مستوياتهم ويتم التفاوض معهم من اجل ايجاد حلول للمسائل الشائكة التي تعترض حياة البطريركية.
2- لقد رفضت الحكومة التركية في عهد البطريرك فوتيوس (1929 - 1935) استخدام عبارة "البطريرك المسكوني" في مراسلاتها مع البطريرك والبطريركية. فامتنع البطريرك عن استلام اية مراسلة لا تحمل هذه العبارة واستمر على موقفه هذا مدة تجاوزت السنة والنصف اضطرت بعدها الحكومة التركية الى تغيير موقفها. منذ ذلك التاريخ، لم تعد الحكومة التركية تثير هذه المسألة، وقد استقبل البطريرك اثيناغوراس، في مقره بالفنار، بصفته بطريركا مسكونيا البابا بولس السادس وملوكا ورؤساء ووزراء من بينهم رئيس الوزراء التركي. اما البطريرك برثلماوس، فقد دعا منذ ارتقائه السدة البطريركية، الى اكثر من لقاء عام للبطاركة الارثوذكس. والتأمت هذه اللقاءات في مقر البطريركية في الفنار (سنة 1992 و2000 و2008) وفي نيقية (سنة 2000). وقد سهلت الحكومة التركية عقد هذه الاجتماعات في تطور لافت يدل على اعتراف الحكومة التركية الضمني بالطابع المسكوني للبطريركية المسكونية.
3- لقد لجأت الحكومة التركية في العام 1936 الى وضع "فيتو" على ترشيح بعض المطارنة ممن يستوفون الشروط القانونية للارتقاء الى سدة البطريركية، مستعيدة بذلك ممارسة كانت قائمة في أيام الامبراطورية العثمانية. وفي مرحلة لاحقة، فرضت انتخاب أثيناغوراس مطران أميركا الشمالية إثر اتفاق أبرمته مع السلطات اليونانية والاميركية. وقد تم بموجب هذا الاتفاق استبعاد كل مطارنة البطريركية المستوفين للشروط القانونية من عملية الترشيح. وقد جاء انتخاب البطريرك أثيناغوراس مخالفاً للشروط الواردة في المذكرة رقم 1092، تاريخ 6 كانون الاول 1023 والتي تشترط أن يكون البطريرك من الجنسية التركية ومن الذين خدموا كمطارنة في تركيا. وقد تسلم البطريرك المنتخب الجنسية التركية من محافظ اسطنبول على درج الطائرة في المطار. كذلك، وفي العام 1972، استبعدت الحكومة التركية أربعة من أهم المرشحين لخلافة البطريرك أثيناغوراس، ولكن البطريركية المسكونية تجاوزت هذه الأزمة القاسية بانتخابها أحد المطارنة المغمورين بطريركاً مسكونياً باسم ديمتريوس الاول. أما انتخاب البطريرك الحالي برثلماوس في العام 1991 فقد جرى وفقاً للأعراف الكنسية السارية المفعول ومن دون أي تدخل في عملية الترشيح، الامر الذي اعتبره المراقبون نقطة ايجابية في العلاقة بين البطريركية المسكونية والدولة التركية.
تدل التطورات التي استعرضنا أعلاه على تحسن ملموس في العلاقة بين الحكومة التركية والبطريركية المسكونية ولاسيما في ما يتعلق بالاعتراف بالدور المسكوني للبطريرك وبعلاقة الحكومة التركية بالمؤسسة البطريركية. ولكن، وبالرغم ممن هذا التحسن الملموس تبقى مسألتان عالقتان بين البطريركية المسكونية والحكومة التركية هما قضية معهد خالكي ومسألة انتخاب البطريرك والمطارنة.
1- تأسس معهد اللاهوت في خالكي في العام 1844 واستمر في تخريح طلاب اللاهوت حتى العام 1971. يعتبر المعهد بموجب القوانين السارية المفعول والمصدقة من الحكومة التركية عام 1951 مدرسة للإعداد المهني. ولكنه قد أقفل في العام 1971 إثر صدور قانون يمنع التعليم الجامعي الخاص. تسعى البطريركية منذ عقود لإعادة فتح هذا المعهد. ولكنه بالرغم من النداءات الدولية المتكررة والوعود الكثيرة التي قطعتها الحكومة التركية للبطريرك المسكوني الحالي، فإن هذا المعهد ما زال مقفلاً حتى هذا التاريخ. يعتبر إقفال معهد خالكي إجحافاً كبيراً بحق البطريركية المسكونية وانتهاكاً لاتفاقية لوزان. وبحسب وزير التربية الحالي فإن أسباب إقفال المعهد هي سياسية بحتة. فقد أقر مراراً بأنه بإمكانه اتخاذ قرار بفتح المعهد خلال 24 ساعة في حال تأمنت الظروف السياسية الملائمة لذلك.
2- تشكل الشروط التي فرضتها الحكومة التركية في ما يتعلق بانتخاب البطريرك والتي تنص على أن يكون الناخبون والمنتخبون من الجنسية التركية ومن الذين مارسوا خدمة فعلية داخل الاراضي التركية مسألة يجري العمل على تجاوزها في أيامنا الحاضرة لأن البطريركية المسكونية تفتقر، بسبب تناقص أعدادها، الى أشخاص يستوفون هذه الشروط. يذكر في هذا الصدد، أن البطريرك المسكوني وبالاتفاق الضمني مع الحكومة التركية قد اتخذ، في العام 2002، قراراً قضى بمشاركة مطارنة المهاجر الذين لا يحملون الجنسية التركية في أعمال المجمع المقدس. فأصبح المجمع يتشكل كل ستة أشهر، وفقاً لمبدأ المداورة، من ستة مطارنة مقيمين في تركيا وستة مطارنة من مطارنة المهاجر يجتمعون دورياً برئاسة البطريرك المسكوني. كذلك، وفي تطور ذي أهمية كبيرة، وافق رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في 15 آب 2009، على منح الجنسية التركية لمطارنة البطريركية المسكونية في الخارج الذين يتقدمون بطلب خطي للحصول عليها. أكد البطريرك المسكوني هذا الامر خلال لقائه مع الرئيس الاميركي أوباما ومطارنة الابرشية اليونانية في اميركا في تشرين الثاني 2009. وكان البطريرك قد أخطر مطارنة كنيسة كريت شبه المستقلة التابعة له بالامر في تشرين الاول 2009 عارضاً عليهم التقدم بطلبات للحصول على الجنسية التركية مع احتفاظهم بجنسيتهم اليونانية. وافق هؤلاء في جلسة مجمعية على طلب البطريركية في حين رفض مطارنة اميركا الشمالية هذا العرض.
يبقى، أن هذه الخطوة المتقدمة، على أهميتها، لا تلغي النص القانوني الذي يبقى تعديله ضرورياً لإتاحة الفرصة لجميع مطارنة البطريركية المسكونية للمشاركة في حياة البطريركية وإدارتها وفقاً لأحكام القانون الكنسي الارثوذكسي.
لقد سعت هذه الورقة الى استعراض واقع البطريركية المسكونية في أيامنا الحاضرة، محاذرة اللجوء الى التهويل أو التضخيم أو الإثارة، ولكنها لم تهون من مشاعر القلق التي عبر عنها البطريرك برثلماوس في مقابلته بقوله: "إني أشعر بأني مصلوب في بلدي وبأني أعامل كمواطن درجة ثانية". فالبطريركية المسكونية كغيرها من البطريركيات الارثوذكسية والكنائس المسيحية في العالم، تشق طريقها في وعورة التاريخ. ولكن هذه الوعورة مع ما يرافقها من تقلبات عاتية أحياناً، لا تنذر بالضرورة بكارثة اندثارها ولا تجيز لأحد استعجال نعيها.
لا يسعنا ختاماً الا أن نحذر من توظيف الحديث عن أوضاع البطريركية المسكونية سياسياً ومن اختزال مشكلاتها وتصويرها وكأنها إضطهاد ديني للمسيحيين من الأكثرية المسلمة.
يبقى أن برثلماوس الاول الذي يرأس كنيسة تؤمن بأن "الازمنة الرديئة لا بد أن تنتهي في النور"، لن يكون "آخر بطريرك مسكوني أرثوذكسي"، مهما قسا التاريخ.
جورج غندور

No comments:

Post a Comment