Monday, June 28, 2010

الدولة تشرّع التسوّل: المجالس البلـديّة نموذجاً
أوّل الدروس التي بدأ بعض رؤساء المجالس البلديّة الجدد تعلّمها إثر فوزهم المظفّر في الانتخابات الأخيرة، هو التسوّل. فبين جوع وزارة المال وصمت وزارة الداخلية والبلديات ورغبة معظم السياسيين في إبقاء البلديات رهينة لديهم، لا يبقى أمام الرؤساء الراغبين في العمل إلّا التسوّل
غسان سعود
بعد شهر على انتهاء الانتخابات البلدية، يكاد يكون الاكتشاف واحداً عند معظم رؤساء المجالس (باستثناء رئيس مجلس بلدية بيروت تقريباً): «لا إنماء ولا من يطبّلون. المبالغ الموجودة في صناديق البلديات لا تكفي لدفع رواتب الموظفين وأجر المبنى البلدي والعمّال. ويفترض برؤساء المجالس البلدية الراغبين في إنجاز القليل أن يضعوا رواتبهم الشهرية بتصرّف صندوق المجلس».
أساساً، المجلس البلدي هو جهاز منتخب يأخذ الأموال من المواطنين عبر مجموعة ضرائب ليوفّر لهم في المقابل مجموعة خدمات. «أهلية بمحلية» إذاً، بعيداً عن أيّ تدخّل لأجهزة الدولة.
تحت هذا العنوان، وفّر قانون البلديات للمجالس البلدية مجموعة مهمّة من مصادر التمويل (المادة 84 من قانون البلديات): رسوم مباشرة تستوفيها البلدية مباشرةً (ضريبة الأملاك)، رسوم تستوفيها الدولة لحساب جميع البلديات (رسوم على أرباح المهن التجارية والصناعية، رسم الانتقال على التركات والوصايا والهبات، رسوم التسجيل العقارية، رسوم على عقود التأمين، رسوم تسجيل المركبات الآلية، ضرائب على التبغ والتنباك والسيجار)، رسوم تستوفيها المؤسسات العامة أو الخاصة لحساب البلديات ويجري توزيعها مباشرةً لكل بلدية (الكهرباء، المياه والهاتف). وبالطبع فإنّ مجموع هذه الرسوم يوفر للمجالس البلدية مبالغ كبيرة يمكن الاستفادة منها في إنجاز الكثير من المشاريع الإنمائية على مختلف الصعد.
لكن، وفي خطوة استباقيّة لاحتمال تحرر رؤساء المجالس البلدية من الارتهان للسياسيين، سيطرت الحكومات المتعاقبة على أموال البلديات. فالمادة 87 من قانون البلديات نصّت على «إيداع العلاوات المشتركة العائدة لجميع البلديات أمانة في صندوق بلدي مستقل في وزارة الداخلية». هذه «الأمانة» الموضوعة في صندوق في الوزارة تحوّلت إلى حساب في مصرف لبنان، ودخلت وزارة المال على اللعبة، فشرّعت الأخيرة لنفسها حقّ التصرف بأموال الصندوق البلدي وفق احتياجاتها، لا وفق احتياجات المجالس البلدية. وحين يذهب رئيس المجلس البلدي اليوم إلى مصرف لبنان ليطالب بالأمانة التي وضعها أهل بلدته في الصندوق البلدي المستقل لتستفيد منها البلدة كلها، يجيبه المعنيون بأنّ الأموال غير موجودة. هكذا اختفت الأموال التي دفعها المواطنون لإنماء بلداتهم بين عامي 1980 و1992. وهكذا تستمر الحكومة الحالية في إساءة الأمانة الموضوعة بتصرفها. إذ باتت وزارة المال تتحكّم في البلديات و«تربّحها جميل» دفعها ما هو في الأصل أمانة للبلديات عندها (آخر توزيع بتاريخ 19 حزيران 2009 اقتصر على عائدات عام 2007، وصرفت وزارة المال مبلغ 234 مليار ليرة من أصل عائدات بلغت 491 مليار ليرة).
أثار هذا الأمر استياء عدد كبير من رؤساء المجالس البلدية ورؤساء الاتحادات، لكن معظم الاعتراضات لم تترجم عملياً. وقد دفع ذلك عضو تكتل التغيير والإصلاح النائب إبراهيم كنعان إلى التعاون مع بعض رؤساء المجالس البلدية لتحديد أساس المشكلة. وتوصّل هؤلاء إلى وجود خمس ملاحظات/ مآخذ جدية، هي:
1ـــــ بات الصندوق البلدي المستقل بتصرف وزارة المال لا وزارة الداخلية والبلديات كما تقتضي المادة 87 من قانون البلديات.
2ـــــ شرّعت وزارة المال بالتعاون مع مجلس الوزراء، عام 1995، حقّ التصرف بالأموال/ الأمانة، دون الرجوع إلى البلديات. فيكلّف مجلس الوزراء الإدارات العامة بتنفيذ اللوازم والأشغال والخدمات التي تخصّص لجميع البلديات، وتحوّل لها قيمة الاعتمادات المعقودة بقرار مشترك من وزيري المال والداخلية.
3 ـــــ حُرمت بعض البلديات واتحادات البلديات من الحصول على كامل العائدات المستحقة لها لمصلحة بلديات واتحادات بلديات أخرى أكثر حظوة من سواها، الأمر الذي يخالف مبادئ العدالة والمساواة التي تقضي بأن توزع أموال الصندوق البلدي المستقل على جميع البلديات واتحادات البلديات دون تمييز أو محاباة. وقد استفادت بلديات واتحادات بلديات من عائدات الصندوق البلدي المستقل، أكثر من غيرها لأنها مشمولة بعقود تلزيم كنس وجمع النفايات ضمن نطاقها، علماً بأنّ التدقيق في الجداول التي أعدّتها مؤسسة «الدولية للمعلومات» عن توزيع العائدات من الصندوق البلدي المستقل يظهر فوارق لافتة بين بلدية وأخرى. فعدد الناخبين في العاقورة في جبيل مثلاً هو 3847 ناخباً، وقد حصلت بين عامي 2002 و2007 على نحو مليار ومئة وعشرة ملايين ليرة. وفي المقابل، فإن عمشيت، التي يبلغ عدد ناخبيها 3805 ناخبين، حصلت في الفترة نفسها على نحو مليار ونصف مليار. ومن جبيل إلى كسروان، حصلت حراجل (4440 ناخباً) في الفترة نفسها على قرابة مليار وأربعمئة مليون ليرة، مقابل حصول زوق مكايل (4337 ناخباً) على أكثر من ضعفي المبلغ الذي حصلت حراجل عليه (قرابة 3 مليارات ليرة). وفي المتن، حصلت بلدية بسكنتا (6513) التي يبلغ عدد ناخبيها ضعف عدد ناخبي برمانا (3081) على المبلغ نفسه الذي حصلت عليه برمانا.
4 ـــــ الحكومة التي لم توزّع عائدات الصندوق البلدي المستقل عن عام 2008 حتى تاريخه، خالفت أحكام المادة السابعة من المرسوم رقم 1917 الصادر بتاريخ 6 نيسان 1979، التي توجب توزيع عائدات الصندوق عن سنة ما في مهلة أقصاها نهاية شهر أيلول من السنة التالية.
5ـــــ تجاوزت الحكومة التي ما زالت غافلة عن إيجاد مخرج قانوني لاحتساب عائدات الصندوق البلدي المستقل العائدة للأعوام من 1980 ولغاية 1992 ضمناً وتوزيعها على مستحقيها، جميع الأحكام التي ترعى أصول إيداع الأمانات وردها إلى مودعيها ضمن المهل المحددة.
اللافت أنّ رؤساء المجالس البلدية يتجنّبون المجاهرة بملاحظاتهم على أداء وزارة المال حتى لا تصادفهم إجراءات انتقامية. وبحسب أحد هؤلاء، فإنّ سيطرة وزارة المال على أموال الصندوق البلدي المستقل، تزامنت مع مجموعة تطورات تشريعية إضافية قلّصت الموارد البلديّة:
ـــــ خفضت موازنة عام 1999 الرسم البلدي على القيمة التأجيرية من 10% إلى 5% للسكن، ومن 11% إلى 7% لغير السكن.
ـــــ أعفى القانون رقم 210 الطوائف المعترف بها في لبنان والأشخاص المعنويّين التابعين لها، والمؤسسات العامة ذات الصفة التجارية من الرسوم البلدية.
ـــــ حرم قانون تسوية مخالفات البناء البلديات 60% من الرسوم والغرامات.
تزامنت سيطرة وزارة المال على أموال الصندوق البلدي المستقل مع تقليص الموارد البلديّة
أساءت الحكومة التصرف بالأمانة وصرفت أموال المواطنين دون مراجعة المعنيّين
ـــــ خفض القانون رقم 282/93 نسب ضريبة الدخل، ورسم الانتقال وضريبة الأملاك البلدية، فانعكس كل ذلك سلباً على حاصلات الرسوم البلدية من هذه الموارد.
ـــــ توقفت عائدات الكازينو للبلديات الصغرى.
وبالتالي، فالمطلوب اليوم، بحسب أحد رؤساء المجالس البلدية الكسروانيّين، ثلاثة أمور أساسية حتى لا تفقد المجالس البلدية مبرّر وجودها، ولا تكون الانتخابات البلدية مجرد استحقاق تنافسي يفقد بعد شهر واحد طعمه ولونه:
1ـــــ تطبيق أحكام المواد 96 و 97 و 98 من قانون الرسوم البلدية، التي تنص على وجوب دفع الأمانة التي تجبى لحساب البلدية المعنية، من جانب المؤسسات العامة والمصالح المستقلة كل ثلاثة أشهر (كهرباء، مياه، هاتف).
2ـــــ تطبيق أحكام المادة 87 من قانون البلديات التي تنص على أنّ أموال الصندوق البلدي المستقل هي أمانة لدى وزارة المال، إضافةً إلى إيداع العلاوات المجباة لمصلحة البلديات في نهاية كل شهر مصرف لبنان، وذلك في حساب الصندوق البلدي المستقل، وتوزيع هذه العائدات كل سنة في مهلة أقصاها شهر أيلول من كل عام.
3 ـــــ عدم استعمال أموال الصندوق البلدي المستقل من جانب أي جهة غير البلدية ولأي غاية، غير تلك التي نص عليها قانون البلديات، فلا تقتطع الأموال لا لمجلس الإنماء والإعمار ولا لشركة سوكلين ولا لصناديق المدارس الرسمية ولا لغيرها.
بدوره، قدم النائب كنعان، في 22 آب 2010، سؤالاً إلى الحكومة يستفسر فيه عن نيّة الحكومة وضع نص تطبيقي يحدّد قواعد توزيع حاصلات الصندوق البلدي المستقل المنشأ لدى وزارة الداخلية؟ وموعد توزيع عائدات الصندوق البلدي المستقل المتراكمة عن عامي 2008 و2009؟ وموعد إيجاد أو اقتراح مخرج قانوني لمعالجة عائدات الصندوق البلدي المستقل عن الأعوام من 1980 ولغاية 1992 ضمناً. وسأل كنعان الحكومة أيضاً إن كانت تنوي الكف عن التعدي على صلاحيات البلديات في الاضطلاع بأعمال النظافة.
وتزامناً مع تأخر رئيس الحكومة سعد الحريري في إجابة كنعان، بعدما حوّل وزير الداخلية والبلديات زياد بارود له السؤال، أعدّ كنعان اقتراح قانون معجّل مكرّر، سيقدَّم باسم رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، يرمي إلى الإجازة للحكومة إصدار سندات خزينة لدفع عائدات البلديات واتحادات البلديات من حاصلات الصندوق البلدي المستقل. وينظّم اقتراح القانون توزيع حاصلات الصندوق البلدي المستقل، إضافةً إلى اقتراحه حلاً لمشكلة الديون حقوق البلديات المتراكمة لدى الدولة بين عامي 1980 و1992.
بغضّ النظر عن موقف تكتل التغيير والإصلاح، تبدو واضحة صعوبة انطلاق المجالس البلدية المنتخبة حديثاً في خطط إنمائية ما دامت هذه المجالس تُمنع من الحصول على أموالها. ويبدو واضحاً أيضاً أنّ عدداً كبيراً من رؤساء المجالس البلدية يتطلّعون إلى دور مؤثّر وفعّال لوزير الداخلية والبلديات زياد بارود في استعادة حقوقهم والدفاع عنها، وخصوصاً أنه يمثّلهم على طاولة مجلس الوزراء.

عدد الاثنين ٢٨ حزيران ٢٠١٠
جريدة الاخبار

No comments:

Post a Comment