Monday, June 21, 2010

بحثاً عن السرّ... في ذكراه الرابعة والعشرين
بشير صفير
عاصي عبّر عن نفسه في فنّهفضّل عاصي الرحباني (4 أيار/ مايو 1923 ــــ 21 حزيران/ يونيو 1986)، استثمار الوقت في العمل، بدلاً من تضييعه في الإطلالات الإعلامية والمقابلات والحياة الاجتماعية. هذا الخيار جعله يقدّم أكثر على المستوى الفنّي، ويُعرَف أقلّ على المستوى الشخصيّ. لكن، رغم مرور ٢٤ عاماً على غيابه، في مثل هذا اليوم بالذات، يلتقي محبوه (حتى من الجيل الجديد) على تفسير واحد لشعورهم تجاهه: لا نعرف كيف ولماذا أحببنا هذا الرجل. هل أحببناه لأننا أحببنا فنّه؟ لماذا أحببنا فنّه؟ لماذا لم نحب فنّه فقط؟ أو لماذا لم نحبه هو فقط؟ فعلاً، ليس هناك جواب واضح ومنطقي لهذه الأسئلة. ما يمكن قوله إن عاصي عبّر عن نفسه في فنّه، بصدق نادر، أو «بإخلاص» كما كان يردّد دائماً. لذا، يبدو مستحيلاً فصل شخصه عن إنتاجه. لكن هل يكفي التعبير بإخلاص، لإنتاج كل هذه الروائع؟ يُحكى دائماً عن عقل موسيقيّ متّقد عند عاصي، وعن عبقرية فطريّة ونقيّة ونقديّة، أضاف إليها لاحقاً الدراسة النظرية كأداة ضرورية لتجسيد ما يبدو موجوداً أصلاً، وليس لصناعة ما هو مفقود. لكن، مرّة أخرى، هل نعتبر ذلك كافياً لتحقيق كلّ هذا الجمال؟ إذا كانت كل العناصر المشار إليها ضرورية للنجاح، فهناك سرّ ما زال ينقصنا لفكّ اللغز. ينقصنا سرّ عاصي. أو السر. يقسم فنّ عاصي، من الناحية الموسيقية، إلى لحن وتوزيع. ويمكن ردّ أعماله جميعها إلى مصدرَيْن: الطبيعة والمجتمع أو الإنسان كابن للطبيعة وأب للمجتمع. فإذا راجعنا ريبرتواره، نقع على أعمال تجد روحها في الطبيعة، وأخرى في المجتمع (وأحياناً في احتكاك الاثنين أو تداخلهما في الإنسان). الأولى تعبّر بدورها عن حالات عدة، قاربها عاصي بأسلوبه الرعويّ الصائب. استوحى من الينبوع، فكان أصفى منه. ومن الليل، فكان أكثر سكوناً منه وأشدّ وحشة. ومن الأزهار، ففاح عطرها في أنغامه. ومن العاصفة، فزادها توتراً وسطوة. ومن البحر والقمر والمطر والعصافير... والأهم، فهم هذا الفنّان العلاقة العميقة بين الإنسان وكل تلك العناصر. وأصرّ على أهميّة هذه العلاقة، وضرورة الحفاظ عليها في ظلّ التطوّر الاجتماعي، وبالتالي الفنّي. عاصي طوّر الأغنية والموسيقى استناداً إلى هذا الخيار الواقعي. لم يرفض الكهرباء، ولم ينسَ ضوء القمر.
عمل على تحقيق ذلك عبر الجوّ العام للأغنية. عبْر لحنها أولاً، أي الصوت الأول للموسيقى. وعبْر التوزيع، أي الأصوات الثانوية. وهنا أيضاً أعاد خلق الطبيعة والمجتمع. فالطبيعة، فعلاً، كما المجتمع، ليست أحادية الصوت. ماذا نسمع إذا جلسنا على ضفة نهر؟ صوت الماء. صوت الأشجار، والهواء، والعصافير. ثمة أصوات ثابتة (خرير المياه). وأخرى متبدلة (الهواء) وأخرى طارئة (العصافير). حتى الصمت لم ينسه هذا الرجل.
عاصي إذاً هو ابن الطبيعة الوفيّ. وأحد أسرار نجاحه أيضاً، هو تعاطيه مع الموسيقى كعنصر من الطبيعة لا كرموز وعلمٍ وقواعد تركيب وبناء العمل. العلم (الرموز والقواعد وإتقان العزف على آلة) هو أداة تجسيد مادية لأنغام موجودة. على عكس الكثير من المؤلفين الذين يطبّقون النظريات فيحصلون على صوت. وليس على موسيقى.
في المسرح والكلمة والنغمة، دخل فنّاننا الكبير إلى الأعماق، وجسّد ذاته بالكامل. ثم أضاف صوت فيروز. لأنّ هذه الذات لم تكن كاملة وحدها... لحسن الحظ.
ربّما يساهم ما سبق في تفسير جزء من السرّ. لماذا يبقى عاصي حاضراً، ومحبوباً، إلى هذه الدرجة؟ الشعب يحبه لأنه الشعب، فكيف يكره نفسه؟ لا خوف على عاصي من النسيان، ولا خوف على فنّه من الذوبان في ابتكارات العصر وصرعاته.

عدد الاثنين ٢١ حزيران ٢٠١٠
جريدة الاخبار

No comments:

Post a Comment