Tuesday, July 27, 2010

أسعد شفتري: رائحة الموت ترافقني حتى اليوم

نبيل المقدم

يسرد اسعد شفتري فصولاً من قصص العنف والقسوة زمن الحرب اللبنانية وتتحول كلماته إلى مشاهد تتحرك امامك، وهي تحاكي ارشيفاً كاملاً من تاريخ الحرب اللبنانية وأسرارها.

هو لا يريد إعادة إظهار الماضي وتسليط الأضواء عليه بل اطلاق اشارات التحذير للأجيال الشابة مخافة ان تقع هي ايضاً في حبائل الانفعالات المشحونة بالغليان الطائفي
المدمّر وتصبح رهينة الخيبة والانكسارات وعدادات الموت المجاني.
عاش اسعد شفتري طفولته وبدايات شبابه في حي الجميزة في بيروت، والتقط من منابته الاجتماعية الملامح الأولى للالتزام السياسي الذي استنفد أفكاره طيلة عقدين من
الزمن كانت خلالها نظرية «لبناننا» بالنسبة اليه خارطة الطريق التي ترسم معالم التعاطي مع الآخرين. شعر الشفتري أن هذه النظرية أصبحت في خطر لا يمكن السكوت
عليه. عندما توقف القتال بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين في العام 1973 بضغط من سوريا والحكومات العربية على الحكومة اللبنانية، كان ذلك ذروة المأساة
عند طالب الهندسة في الجامعة اليسوعية الذي كان يرى ان الجيش اللبناني هو سلسلة أمنية تحيط بـ«لبناننا»، الشديد الخصوصية، وتمنع عنه «شر الفلسطينيين الدخلاء
والمسلمين الباحثين عن مشاركة اوسع في الحياة السياسية».
قرر الشفتري في ذلك العام الالتحاق بمخيم تدريب عسكري تابع للكتائب اللبنانية.. لاحقاً، ولاعتبارات ثقافية وعلمية، تم تحويله الى قسم الاشرفية الكتائبي. هناك
تعرف اسعد على بشير الجميل وانتظم في دورة عقائدية كانت تحاكي في خطابها «تأميم الفكر اللبناني» في خطاب يقتات من العنابر الطائفية والمذهبية.
انتمى الشفتري الى حزب الكتائب والتحق بالخلية الطلابية في الجامعة اليسوعية. ولكن هذا الانتماء، لم يشبع تطلبه، فشكل مع رفاق له خلية سرية داخل الحزب اسماها
«حراس الارز» راحت توزع شعارات ضد الوجود الفلسطيني في لبنان وتشتري لنفسها ألبسة عسكرية. «كنا نشعر بصورة مستقبلية قاتمة» يقول الشفتري ويذكر كيف ان بشير الجميل
اوعز الى احده معاونيه بالاندساس في تلك المجموعة ونقل اخبارها اليه.
صحت توقعات الشفتري وبدأت بقع الدم بالانتشار في الجسم اللبناني. فدشن موقعه في الحرب اللبنانية، في العام 1975، بالعمل في وحدة اللاسلكي التابعة للكتائب اللبنانية
قبل ان يطلب منه بشير الجميل ومجموعة من رفاقه تطويرها لتشمل عمليات التنصت وجمع المعلومات، وكان جزء من عملها مركزاً على المؤيدين للاحزاب اليسارية في المناطق
المسيحية والتحقيق معهم وإبعادهم عنها. يروي الشفتري بمرارة بعض الوقائع التي عاشها في تخوم تلك المرحلة، فيذكر كيف تم سوق بعض السكان القاطنيين قرب خطوط التماس
الى التحقيق وتعرضهم للضرب المبرح بسبب اهتزاز ضوء او شمعة في منازلهم والتي كانت تفسر بانها اشارة للطرف الآخر لممارسة عمليات القصف او القنص من «العدو» على
مواقعنا ويحدثك عن جثة امرأة في مخيم الكرنتينا مازالت تكاوينها في ذاكرته حتى اليوم من بين مئات الجثث التي كانت منتشرة في أرجائه. يقول منفعلاً إن رائحة الموت
المنبعثة منها مازالت تزكم أنفه وتبعث فيه مشاعر الخوف والرهبة كلما استعاد صورتها من اعماق الماضي.
طُلب من أسعد الالتحاق بجهاز سري أنشأه بشير الجميل لتبادل المعلومات بين «القوات اللبنانية» والإسرائيليين، وقارب تلك العلاقة ومراحل تطورها والتي كان يخفيها
حتى عن زوجته العاملة معه في هذا الجهاز في ذلك الوقت.
يروي اسعد الشفتري كيف عرج على بشير الجميل للتزود بتعليمات قبل ذهابه في مهمة عبر البحر، دون ان يكون قد علم باغتيال ابنته مايا. يومها طلب منه بشير استدعاء
ايلي حبيقة قائلاً حان الوقت لإنشاء جهاز مخابرات جدي وفعال في «القوات». وسرعان ما ظهر الضيق على بشير عندما بدأ يكتشف ان حبيقة لا يطلعه على بعض العمليات
الامنية التي كان يقوم بها، والتي كان الشفتري عنصراً أساسياً في تحضير مسرح عملياتها والذي كان يستعين في بعضها بصور جوية زودت اسرائيل «القوات اللبنانية»
بها.
يقدم الشفتري «بانوراما» مغايرة لتلك التي سيقت في سرد أحداث صبرا وشاتيلا في أيلول 1982، ويقول «بعد اغتيال بشير الجميل طالب الإسرائيليون «القوات» بما تمّ
الاتفاق عليه مع الرئيس المنتخب والدخول الى المخيمات الفلسطينية في بيروت لتجريد الفلسطينيين من سلاحهم وكان الاتفاق يقضي بالدخول الى المخيمات على مراحل من
قبل اربع قوى وهي تباعاً المخابرات الاسرائيلية وعناصر سعد حداد («جيش لبنان الحر» المتعامل مع اسرائيل) والمجموعات الأمنية التابعة لإيلي حبيقة والقوى النظامية
في «القوات اللبنانية». يستبعد الشفتري أن يكون ايلي حبيقة قد اعطى امراً بقتل المدنيين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا انتقاماً لمقتل بشير «لان اعترافات حبيب
الشرتوني كانت قد حصرت مسؤولية عملية اغتيال بشير الجميل بالقوميين السوريين».
دخلت العلاقات بين الرئيس أمين الجميل و«القوات اللبنانية» في نفق مشبع بالمرارة عندما طالب رئيس الجمهورية قيادة «القوات» بتنفيذ بروتوكول سري كان تم التفاهم
عليه بين الكتائب و«القوات»، يقضي بعودة «القوات» بكل مكوناتها الى الامرة الكتائبية عندما تنتفي ظروف وجودها.
تمرد «القواتيون» على أمين الجميل ووجدوا انفسهم بمواجهة تهديد وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس بالدخول الى المنطقة الشرقية متهماً الاصابع الاسرائيلية بتحريك
«الانتفاضة القواتية». يروي الشفتري وقائع اجتماع قيادة «القوات» للبحث في التهديد السوري والذي خلص الى ضرروة الاتصال بالقيادة السورية وإفهامها ان التحرك
القواتي داخلي بحت بعد ان تبين من التقارير العسكرية ان «القوات» لا تستطيع الصمود اكثر من خمس ساعات في حال حصول مواجهة كهذه مع الجيش السوري.
تلاقت المعلومات عند رئيس جهاز أمن «القوات» على وجود اتصالات بين الرئيس امين الجميل من جهة وكريم بقرادوني وسمير جعجع من جهة اخرى لم يستطع فريق التنصت اجلاء
معالمها. استعان الشفتري بخبير في فتح الأقفال ودخل الى مكتب كريم بقرادوني في قيادة «القوات» ليجد رسالة تحمل تفويضاً من بقرادوني وجعجع للرئيس الجميل بإجراء
اتصالات باسمهم مع دمشق.
حملت تداعيات هذه الرسالة ايلي حبيقة الى رئاسة الهيئة التنفيذية في «القوات» ليبدأ بعدها مشهد جديد من ضمن «بانوراما» شارك الشفتري في صياغة ديكورها السياسي
والامني، فذهب الى دمشق مع ميشال سماحة مفاوضاً باسم «القوات» على إنهاء الحرب الأهلية وتعرض لمحاولة اغتيال من قبل عناصر سمير جعجع كان المستهدف بها ايلي حبيقة
وخرج مرغماً من المنطقة الشرقية بعد انتفاضة جعجع على «الاتفاق الثلاثي».
صورتان نمطيتان شكلتا عند اسعد الشفتري بداية التآكل في مصطلحات القسوة والكراهية والتوجس من الآخر: الأولى، يوم طالب سمير جعجع المسؤولين غير الموارنة في «القوات»
مغادرة قاعة الاجتماعات عندما وصل البحث الى موضوع المثالثة ضمن المناصفة، والذي كان مطروحا في محادثات الاتفاق الثلاثي في دمشق، وجوبه بعاصفة من الرفض والاستنكار
من قبل الحاضرين ولا سيما كريم بقرادوني. يومها سأل الشفتري نفسه «عن اية مصالح وحقوق كنا ندافع»؟ والثانية، عندما رفض إيلي حبيقة اقتراحاً له باستهداف سمير
جعجع.
اختار الشفتري لحظة تاريخية للخروج من السجن الكبير ومحاربة ظلم الحرب وقهرها. وهو اليوم أكثر قوة وتفاؤلاً بتغيير الواقع وأنه صاحب مسؤولية مباشرة في هذا الموضوع.

نبيل المقدم
السفير

No comments:

Post a Comment