Saturday, August 21, 2010

الجنرال والشيخ في لعبة التدمير
رجل مصري يوزّع عصيراً على الصائمين مجاناً الأربعاء الماضي (خالد دسوقي ــ أ ف ب)ماذا يفعل الأمن مع أساطير البركة في السياسة والاقتصاد؟ الأمن وحده، والمجتمع يتفرج ويدفع فواتير الحرب بين قوة الجنرال والشيخ. وفي سنة الانتخابات الصراع الآن في العلن، والمجتمع حائر في لعبة تدمّر السياسة والاقتصاد والأمن
وائل عبد الفتاح
كيف يواجه الأمن أساطير البركة؟
الريان خرج. أول نجوم الثروة السهلة، صائد ثروات من نوع سيدخل التاريخ. في الثمانينيات أقنع أكثر من ٢٠٠ ألف شخص بوضع ثرواتهم في خزائنه بدلاً من المصارف، في ظاهرة كانت مرحلة البحث عن مكسب خرافي. صفقة واحدة تضمن الانتقال من قطيع الطبقة الوسطى الى أغنياء ما بعد دولة الاشتراكية المهزومة على جبهة الحرب مع إسرائيل.
الحلم الشائع في تلك الأيام هو ضربة واحدة (شحنة مخدرات، سرقة بنك...) يحدث بها الانتقال، ثم يستريح الشخص بعد أن يكون قد انتقل الى شريحة أعلى.
هكذا أصبحت شركة الريان تملك في منتصف الثمانينيات ما يتجاوز الـ ٦ مليارات جنيه، في وقت كان فيه المليار اسماً من عجائب وأساطير تنافس الألف ليلة وليلة.
الريان نجم اقتصاد عاد في الثمانينيات الى مرحلة ما قبل المصارف. الدولة الناصرية تفككت، وظهرت من بين شقوقها كل طموحات العودة إلى شكل من أشكال «ما قبل الدولة».
التفكك أحيا الغرائز، والتقطها الشطار ليصنعوا منها جسوراً الى ثروات سهلة، تغطيها «بركة» الحلال. هكذا ظهرت شركات توظيف الأموال في الثمانينيات، لتحصد فشل الدولة، وتخطف مدخرات العاملين في الخارج، وتصنع وحشاً مالياً خارج السيطرة.
صورة الريان يظهر فيها بالفانيلة الداخلية، ووجهه المرهق، ومشاعره القوية بالثقة، مقارنة مع نجوم أحدث في عالم ما وراء القضبان. فارق كبير بين شاطر وظّف شطارته وأدواتها، من اللحية الى الإقناع الشخصي في صنع كيان مواز للدولة، وبين شطار المرحلة الأخيرة الذين تعلموا الدرس وعرفوا أن طريق الثروة يمر بالدولة، وأن الثروة منحة يمكن أن تستردها الدولة وقتما شاءت.
صور الريان والنجم الحديث تكشف عن جوانب كبيرة مما حدث في مصر (سنوات ما بعد حرب تشرين). النجم الحديث غاضب دائماً في الصور، مصدوم، يشعر بأنه منزوع القوى، والجهات التي منحته النفوذ سحبته، وجعلته معلقاً بين فراغات الزنزانة المرعبة.
الغضب والقوة المسحوبة تجعلانه متوتراً وعصبياً، حتى وهو صامت، بينما الريان يشعر بأن أسلحته لا تزال في يده: استغلال حاجة الناس الى البركة، ورغبتهم في الخروج من قيد الدولة.
هل كانت الدولة واعية بهذه القدرات، ولهذا اعتقلت الريان بعد انتهاء فترة الحكم عليه؟ 7 سنوات كاملة قضاها الريان معتقلاً بقانون الطوارئ... لماذا؟ هل شعر الأمن بخطورته؟ وقدراته على صناعة قوة اقتصادية جديدة؟ وهل عقل الأمن ذكي الى هذه الدرجة؟
الريان يخرج من المعتقل بتعاطف أقوى مما دخل، ضحاياه أقل سخطاً عليه. الطمع في فائدة تتجاوز كل المعايير المالية، وتصل الى 15 و20 في المئة، كما أعطى ضحاياه حينها، لا يزال حاضراً، ومعه كل مفردات أسطورة الريان.
هل ينجح عقل الأمن في محو أساطير تعتمد على الفكرة السحرية للبركة؟ ماذا فعل مسلسل «الجماعة» الذي يعرض الآن؟ هل نشط الحوار السياسي؟ هل وجه ضربة قوية لجماعة «الإخوان المسلمين»؟ هل كشف ما لا يعرفه أحد عن التنظيم الذي يعمل في مسافة بين السر والعلن، المسموح والمحظور؟
المسلسل ساهم في وضع الجماعة من جديد في قلب الجدل السياسي. وبعدما حقق الدكتور محمد البرادعي خطوة في إطار حضور المعارضة المدنية، ونزع السحر الطاغي من فكرة الشيخ الذي يجاهد الدولة بالدين، استعادت الجماعة جزءاً من مساحتها بالانقسام حول المسلسل.
ربما يخدم المسلسل النظام في حروبه الانتخابية مع الجماعة، كما كان مرجواً من اختيار سنة الانتخابات موعداً للعرض. وربما كان المسلسل مثل السلاح الخطر الذي يصيب صاحبه، ولا يقتل الخصم، يترك في كل منهما جروحاً سخيفة.
يقال إن التلفزيون الحكومي في مأزق، بعدما وصلت تقارير بأن المسلسل يخدم الجماعة، ويقال أيضاً إن التلفزيون دخل في منافسة مع دعاية طارق نور على قناته «القاهرة والناس» التي تقول إنه المكان الوحيد الذي يعرض الحلقات كاملة، من دون رقابة.
إنه لعب سياسي، لكن بطريقة قديمة. النظام له فرقة حراسة ثقافية وفنية، لا بمنطق الانتهازية فقط، ولكن بفعل الخوف من وصول الإخوان أو ما يمثلونه من حضور لموديل الدولة الدينية.
وفي مقابلهم حرس جديد يستمد زهوته من شعور بأنه يدافع عن الله والإسلام، ويواجه الدولة بمشاعر خائفة على الدين. وهذه لعبة تدفع العقل السياسي في مصر الى «قفلة دومينو».
الجنرال في الحكم وبقناع مدني، والشيخ في المعارضة بقناع مدني أيضاً. «قفلة» تضغط على زر التثبيت PAUSE وتضع المصريين أمام اختيارات صعبة: اما أن تستمر مع الجنرال، بمعرفته الطويلة بكل كبيرة وصغيرة في البلد، ويحكم بشرعية تاريخية (الثورة والحرب)، أو تذهب الى الشيخ الذي سيعيد كلمة الله الضائعة، ويحقق الفرض السادس من الإسلام.
هذه هي الصورة التي يقدم بها كل فريق دعايته، من خارج السياسة وبدون مفرداتها، يريد كل من الجنرال والشيخ الوصول الى الحكم بمظلة استثنائية، بطولة تعمي الأبصار عن النظر في البرنامج السياسي.
أي أننا لنتخلص من حكم الجنرال ببطولاته في الثورة والحرب، ليس أمامنا إلا الشيخ ببطولاته في حماية الدين والأخلاق. بمعنى آخر: إما الدولة العسكرية بقناع مدني، أو الدولة الدينية بقناع مدني أيضاً.
وهذه هي المأساة. الهرب من الجنرال الى الشيخ، أو الخوف من الشيخ والاختباء في قلعة الجنرال.
هذه هي اللعبة التي تدمر السياسة والتغيير والإصلاح. تدمرها وتأخذ مصر الى عصور ما قبل السياسة. كما أن الريان هو عودة إلى عصور ما قبل الاقتصاد الحديث.
وهل يمكن أن يحمي الأمن المجتمع من هجمات أساطير البركة في السياسة والاقتصاد؟
سنوات العِشْرَة الطيّبة
أمن الدولة و«الإخوان المسلمون» في حال عداء. هذا المعلن، لكن الخفاء يحمل معطيات سنوات من «العِشْرَة الطيّبة»، كشفت عنها وفاة مهندس «التوبة»
الجماعة الإسلامية قلقة. نشرت على موقعها بياناً بعنوان «وفاة اللواء أحمد رأفت... هل نقطع ما اتصل؟».
ورغم أن محتوى البيان ينص على إيمان الجماعة بأن وفاة اللواء أحمد رأفت، نائب رئيس جهاز أمن الدولة، لن تكون نهاية «سنوات العسل» مع «أمن الدولة»، إلا أنه يخفي قلقاً وحيرة من مصير الجماعة بعد غياب مهندس المبادرة التي أعلنت فيها قيادة الجماعة في السجن توبتها عن العنف، في مقابل الإفراج عن الأعضاء المعتقلين، ورعاية عودتهم الى الحياة.
ويبدو أن اللواء الراحل هو الوجه الطيب، الذي رأته التنظيمات الإسلامية على كل أشكالها، في «أمن الدولة». جماعة الإخوان المسلمين سارت في جنازته، ومنتصر الزيّات، أشهر الوسطاء المعلنين بين الجماعة والأمن، كتب مقالاً عاطفياً عن سنوات العِشْرَة الطيّبة مع «الحاج»، وهو الاسم المعتمد للواء أحمد رأفت.
الزيّات حكى حكاية توضح كيف حماه اللواء رأفت من وزير الداخلية حبيب العادلي. وقال «في آخر زيارة إلى مكتبه (رأفت)، أخرج ملفّاً فيه مذكرة من الوزير مدوّن بها تقرير ضدي، اجتزأ كاتبه تصريحاتي ببرنامج «الملف» في قناة الجزيرة. وعلى الملف تأشيرة الوزير بالمداد الأحمر: يا سيد أحمد شوف صديقك بيقول إيه».
ويتابع الزيّات ناقلاً عن اللواء الراحل قوله «يا عم إنت حترفدني. علشان خاطري اكتب رسالة للوزير تسترضيه». ويقول «أعطاني قلماً وورقة كتبت فيها ظروف التصريح وحقيقته وسلمتها له، فقرأها بسرعة ومزقها، قائلاً «يا عم انت كاتب مذكرة قانونية، باقولك استرضيه»، فهمت مراده وكتبت للوزير لغة إنسانية رقيقة، طواها وهو يقول «أيوه كده أنا أروح أسلمها للوزير بنفسي».
الحكاية تكشف عن صراع في عقل جهاز الأمن حول ملف الجماعات، وربما كل الملفات السياسية. صراع حول النظرة إلى طريقة السيطرة على الجماعات الخارجة عن طاعة الدولة: العنف أم الاستيعاب؟ هل كان «الحاج» يمثل الواجهة الطيبة أم أنه يعبر عن سياسة لا تنتهي بغياب صاحبها؟ وسؤال أهم: هل هناك «حاج» جديد يمكنه تحقيق مصالحة بين الشرطة والمجتمع كله، ليتوقف العنف والتعذيب في أقسام الشرطة؟
الحكاية تكشف أيضاً عن سيطرة أمن الدولة على ملعب السياسة في مصر. أمن الدولة هو أداة الحكم الأولى في عهد حسني مبارك. الجهاز يمدّ خيوطه بشكل معقد ومركب مع خصومه المعلنين، ومندوبوه ضالعون في إدارة كل شيء، من الأحزاب المعارضة الى الجامعات، من المصالح الحكومية الى برامج الحوارات. الأصابع موجودة ووقع أقدام الضابط في أمن الدولة مسموع للجميع.
ساحة التنافس على الدين
جمال مبارك (بيار فردي ــ أ ف ب)البابا شنودة نصح «شعبه» بالحذر من الاعتراف بالتلفون.
قال: «إوعوا تعترفوا بأخطائكم في التلفون، أحسن المكالمات كلها مسجلة من أمن الدولة، وبعدين تضطروا تروحوا تاخدوا الحل من المباحث في السجن، بدل ما تاخدوه من الأب الكاهن بتاعكم في الكنيسة».
سخرية ربما. لكنها كاشفة عن علاقة متوترة بين الكنيسة وأجهزة الأمن، أو بتحديد أقوى، مداعبة للجهاز الذي أصبح مسؤولاً من الباطن عن إدارة ملف الأقباط.
عقل الجهاز غامض، يرفع شعارات الوحدة الوطنية، بينما الهم الرئيسي هو الفوز في مباراة إثبات «تديّن» الدولة.
الجهاز أداة، تجبر على التفكير وصناعة الرؤية، وعقل مجبر على التفكير بالقطعة، هذا ما يفسر مضايقة المؤيدين لجمال مبارك، على اعتبار أنهم عناصر خارج السيطرة، أو خارج الكتل المعروفة في تركيبة الحزب الحاكم. من يحركهم؟ من يضبط إيقاع حركتهم حتى لا يفسدوا صورة ابن الرئيس؟
شكوى المرتزقة الشعبيين في حملة جمال مبارك دليل حيادية الجهاز، أكثر ربما من علامة على صراع علوي حول اختيارات الحزب.
كذلك فإن انتقادات البابا الساخرة، إضفاء صورة الجهاز «المؤمن» في المعركة مع التنظيمات الإسلامية التي تتهم النظام بالكفر، والخروج عن الدين. الجهاز ومن طبيعته الحركية، يسعى الى خاتم ضمان، في حرب مع منافس يكسب من خطايا النظام.
الجنرالات فشلوا في صناعة دولة ناجحة، وقتلوا المنافسين أو مشاريع المنافسين. حاربوهم بالسلاح التقليدي: نشر شائعات عن الكفر والخروج عن النص الاجتماعي، وأمّموا السياسة لهم وحدهم. ولم يبق أمام الناس سوى الشيخ.
الشيخ استفاد من فشل الجنرال الذي وضع المجتمع كله في زنزانة كبيرة. أدارها بمنطق الثكن العسكرية.
كان الجنرال يخطب في شعبه من الشرفات. ينظر إليه من أعلى، بينما كان الشيخ بجوارهم في الجامع لحظة الصلاة والمساواة بين الجميع.
هزيمة الجنرال انتصار للشيخ. وهما متشابهان في طلب السمع والطاعة. الجنرال يطلبها في الشارع. والشيخ في المسجد. والهزيمة أخرجت الشيخ ليكون امتداداً للجامع.
استمرار حسن البنا هو ابن هزيمة الدولة الحديثة التي نافق فيها كل الجنرالات الحس الديني للشعب. يقولون إن شعب مصر متدين وكأنه الوحيد بين شعوب الأرض، أو كأن ذلك يعني معاملة خاصة تختلط فيها محبة الله ببناء الدولة. وساعتها سيظهر شعار مثل أن الإسلام هو الحل. وهو شعار يشبه الدعايات التلفزيونية التي تلغي كل مميزات المنافس، بل تلغي المنافسة من أساسها.

عدد السبت ٢١ آب ٢٠١٠
الاخبار

No comments:

Post a Comment