Tuesday, December 28, 2010

حين يمتدح البطريرك الرئيس...
جان عزيز

ماذا يعني أن يقول البطريرك صفير لرئيس الجمهورية ميشال سليمان: «إنكم تبذلون يا صاحب الفخامة، أنتم وصحبكم الكرام، الغالي والرخيص في سبيل بلوغ سفينة الوطن
ميناء الأمان»؟ وما معنى أن يكرّر غبطته إشارته اللافتة إلى «التوجّه الحكيم»، و«التوجيهات الحكيمة» لرئيس الجمهورية؟
طبعاً، لا يمكن اعتبار هذا الكلام فريداً من نوعه في أدبيات السلطة الكنسية، ولا قطعاً هو غير مسبوق في قاموس البطريرك صفير. فقبل سليمان، خصّص صاحب الغبطة
دزينة من العظات والرسائل والبيانات الشهرية لمجلس الأساقفة الموارنة لمديح الرئيس إميل لحود، بدءاً من خريف عام 1998. منها تأكيد البطريرك على سبيل المثال
أن لحود «يريد مع معاونيه أن يقيم دولة القانون والمؤسسات والقضاء المنزّه المستقل، والإدارة السليمة والشفافية في الشؤون المالية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية...»،
قبل أن ينتهي به الأمر إلى شبه قطيعة رسمية مع الرئيس السابق...
وقبل لحود، لم تشذّ لغة البطريرك حيال الرئيس الأسبق الياس الهراوي عن النمط التقريظي نفسه، وإنْ كان قد أقفل أبواب بكركي في وجهه يوم عيد الميلاد من سنة 1996...
ليعود فيتشرّف بنيله جائزة الرئيس الراحل، على قاعدة أنّ حرمة الموت لديه، ربما، أعلى من حرمة الحقيقة...
وتطول لائحة المسؤولين المشمولين ببركات اللغة البطريركية، حتى إنها تتضمّن الرئيس السوري بشار الأسد نفسه، الذي توقفت بكركي طويلاً في آذار 2003 لتقدّر حكمته
وبعد نظره حيال اجتياح واشنطن لبغداد...
غير أن في كلام صاحب الغبطة عن الرئيس ميشال سليمان نكهة أخرى، قد تكون عائدة إلى سببين اثنين، كلاهما قد يكون من النطاق الواعي للعقل، أو من نطاقه اللاواعي.
السبب الأول، هو هذا الانطباع الدائم لدى المراقبين أن كلام صفير عن سليمان يتضمّن في مكان ما بين سطوره غمزةً من قناة ميشال عون. وهي الغمزة نفسها التي لا
يمكن المتابع إلا أن يستشعرها حين يستقبل رئيس الجمهورية، مثلاً، النائب السابق لرئيس الحكومة عصام أبو جمرا، أو حين يعطي الإعلام الحريري هذا الحديث السياسي
حقّه في الحد الأدنى، فينشر صورة سليمان مع أبو جمرا على ستّة أعمدة من صدر الصفحة الأولى للصحيفة الحريرية، بعد غياب عن الصدور طيلة يومين، راكما على كل الصحف
كمّاً هائلاً من الأخبار والصور...
طبعاً، لا يمكن بأي حال من الأحوال تصنيف هذا السلوك في خانة الكيدية، أو الحرتقة الصبيانية. غير أن كل مواكب لعلاقات الأشخاص المعنيين به، لا بد أن يشتمَّ
منه تلك الغمزة.
غير أن سبباً آخر يظل كامناً أيضاً خلف النكهة الخاصة لكلام البطريرك إلى ميشال سليمان. إنه السبب المرتبط بما قد يكون نظاماً نفسانياً للدفاع عن النفس، أو
آلية سيكولوجية للتنصّل من المسؤولية، ولتجنّب تبعاتها وتحمّل نتائجها.
ومسؤولية السلطة الكنسية في هذا المجال مزدوجة. فعليها مسؤولية المشاركة في الخيار والاختيار، لجهة هوية المسؤول، كما عليها مسؤولية الشراكة في الأعباء والمسؤوليات،
لجهة المواطنين، وأقلّهم مؤمنوها.
فالسلطة الكنسية ـــــ الراهنة على الأقل ـــــ كانت شريكة منذ عقدين ونيّف، أولاً في بلورة مشروع الطائف كحل دستوري، وثانياً في إعطائه مقوّمات التنفيذ. كذلك
فإن السلطة نفسها كانت شريكة ـــــ بالفعل أو بالصمت ـــــ في اختيار عهود الطائف الأربعة، من معوّض حتى سليمان. هكذا يصير الخطاب الكنسي في مديح الرئيس نوعاً
من إبعاد أي مراجعة ذهنية وإشاحة أي قراءة نقدية... وصولاً حتى إنكار أي خطأ أو هفوة أو ما ينتج وجدانياً منهما. هكذا يرتاح سيّد الصرح حين يسمع من صوته كلاماً
يؤكد صواب خياراته. ويرتاح أكثر حين يصير هذا الصوت مقنعاً للناس الذين أعطي رعايتهم.
ومسؤولية السلطة الكنسية في جانبها الثاني هنا هي حيال هؤلاء الناس تحديداً. الناس الذين هم جزء لا يتجزأ من الكنيسة، تماماً كما تقول عقيدتها ويؤكد المجمع
الفاتيكاني الثاني، والناس الذين أعطوا الكنيسة كل ما لدى سلطتها من إمكانيات ومقدّرات، بدليل معنى الكلمة المستخدمة للدلالة على أملاك الكنيسة: الوقف، أي ما
وقفه الناس لكنيستهم، وما أرادوه به ولها أن تصير مؤسسة عامة بأموال خاصة، لا مؤسسة خاصة بأموال عامة. هذه الأوقاف التي عجزت السلطة الكنسية عن تثميرها بحيث
تقي «واقفيها» نزف النزوح والهجرة بدافع البيت أو الجامعة أو العمل...
كل تلك المسؤولية يسقطها خطاب السلطة الكنسية، حين يمدح الرئيس ويلقي بعبء الكثير من أعباء الناس على «الآخرين»، انقلابيين كانوا أو «منشقين» أو مشاريع «محرومين»...
قلوبٌ من ذهب، وصلبانٌ من خشب، هكذا وصف فولناي كنيسة الشرق... قبل قرنين.

العدد ١٣٠١ الثلاثاء ٢٨ كانون الأول ٢٠١٠سياسة
الاخبار

No comments:

Post a Comment