Thursday, December 23, 2010

شربل قزي: كلمات المرور وخريطة الاتصـالات

جنديان إسرائيليان يثبتان جهاز إرسال قبالة الحدود الجنوبية (كامل جابر)
ما قبل توقيف شربل قزي ليس كما بعده. لا يرتبط هذا التقسيم بأهمية الموقوف وحسب، بل يتعداه إلى كون عملية التوقيف أظهرت للرأي العام والمسؤولين عن قطاع الاتصالات حجم الاختراق الإسرائيلي للقطاع. فشربل قزي الذي زوّد الإسرائيليين بخريطة شبكات الاتصالات منذ عام 1996، أعطاهم أيضاً عدداً كبيراً من كلمات المرور الخاصة بالشركة التي يعمل فيها، إضافة إلى تفاصيل عن الموظفين الرئيسيين في الشركة
حسن عليق
شربل قزي. كان توقيفه يوم 24 حزيران 2010 فاتحة عمليات الكشف عن الخروق الإسرائيلية لقطاع الاتصالات. رئيس قسم الصيانة في شركة ألفا اعترف بأنه بدأ تعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية منذ عام 1996. وقبل نهاية العام التالي، قتلت المقاومة صديقه العميل الذي جنّده، فدبّ في قلبه الرعب، وقطع اتصالاته بالإسرائيليين. إلا أنهم تمسّكوا به إلى أن عاد للتعامل معهم. ومنذ بدء «تعاونه» مع الاستخبارات الإسرائيلية، كان قزي عينهم الساهرة على قطاع الاتصالات. زوّدهم بالكثير من التفاصيل والمعلومات عن الشركة التي عمل فيها، وعن فريق عمله وزملائه البارزين. وبواسطته، حصلت إسرائيل على خريطة شبكة الاتصالات اللبنانية، منذ عام 1997.
كيف بدأت رحلة قزي مع الاستخبارات الإسرائيلية؟
الشخص المحوري في الحياة التجسسيّة لشربل قزي (موالد علمان ـــ الشوف عام 1954) هو العميل سليم ريشا، الذي قتلته المقاومة بعبوة ناسفة في تشرين الثاني 1997. كان الشابان (شربل وسليم) زميلين من أيام الدراسة في ثانوية الزعتري بصيدا (1972). توطدت صداقتهما أكثر عندما تابعا دراستهما المهنية في معهد الدكوانة، ونالا شهادة TS إلكترونيك. كان سليم منتمياً إلى حزب حراس الأرز، ويتولى مسؤولية مركز أنان (جزين). وعبر سليم، انتمى شربل إلى الحزب ذاته عام 1979، وبقي فيه إلى عام 1982.
بموازاة انتمائه إلى حراس الأرز، توظف في وزارة الاتصالات. أما صديقه سليم، فكان موظفاً في شركة خاصة للاتصالات في منطقة الأشرفية، إلى أن انتقل عام 1981 إلى منطقة شرقي صيدا، حيث افتتح سنترالاً خاصاً قبل أن يوسع عمله ليفتتح سلسلة سنترالات في منطقة جزين. وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، انضم سليم ريشا إلى ميليشيات العملاء. وسريعاً، صار يعمل في جهاز الأمن التابع للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وبالتحديد، في وحدة المصادر البشرية (504). ومذّاك، لم يعد ريشا ينتقل إلى الأراضي المحررة، فاقتصر تواصله مع صديقه شربل على الاتصالات
الهاتفية. صومع توسع عمل سليم في مجال السنترالات، عرض على شربل العمل معه، وبالتحديد أن يتولى صيانة الأجهزة المعطلة في السنترالات، مقابل مبلغ 200 دولار شهرياً. وافق شربل، وصار صديقه يرسل له الأجهزة المعطلة مع سائق سيارة أجرة، فكان شربل يصلحها ويعيدها مع السائق ذاته. ومن حين إلى آخر، كان شربل يزور سليم في جزين. عام 1994، انتقل للعمل في شركة سيليس المشغلة لإحدى شبكتي الهاتف الخلوي، وبالتحديد، في قسم صيانة الاتصالات.
تحت الشرشف إلى إسرائيل
شهد عام 1996 نقطة التحول الرئيسية في حياة شربل. أصيبت ابنة أخته بمرض السرطان، وصارت حالتها مستعصية. اتصل قزي بسليم ريشا، لعلمه بعلاقاته المميزة مع الإسرائيليين، طالباً منه مساعدته على إدخال ابنة شقيقته إلى مستشفى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. طلب سليم إرسال ملفها الطبي، ففعل شربل. وبعد أسبوعين، اتصل به سليم، طالباً منه الانتقال إلى جزين للقاء طبيب إسرائيلي يريد مناقشة الملف الطبي لابنة شقيقته.
هنا، «علق» شربل بالسنارة. انتقل إلى جزين التي أخذه منها سليم إلى مرجعيون «للقاء الطبيب». ولما وصلا إلى مكان قريب من الحدود اللبنانية الفلسطينية، كشف سليم لشربل أنهما سيتخطيان الحدود. وافق شربل، فما كان من سليم إلا أن اتخذ الإجراءات الاعتيادية التي ينفذها المحرك الأمني عندما يريد نقل شخص مُرشّح للتجنيد للقاء ضباط الاستخبارات الإسرائيلية: أجلسه في المقعد الخلفي من السيارة، وطلب منه الاستلقاء، ثم غطاه بحرام لكي لا تنكشف هويته أمام أيّ كان.
بهدوء، عبرت السيارة «بوابة فاطمة»، ومن دون أي إجراءات أمنية. فسليم ريشا محرّك أمني فعّال ويثق به مشغّلوه. دخل ريشا بسيارته إلى هنغار ملاصق للمعبر. ترجل مع «ضيفه»، وأدخله إلى منزل جاهز حيث كان بانتظارهما ثلاثة أشخاص: اثنان صامتان، والثالث هو الطبيب المفترض. شرح الأخير الوضع الصحي لابنة شقيقة شربل، مؤكداً غياب أي أمل لها بالحياة. غادر الطبيب سريعاً، تاركاً الكلام لزميليه الصامتين. شرع أحدهما يحدّث شربل باللغة العربية. أخذ منه نبذة عن حياته وعن أبنائه وأشقائه وأقاربه، وعن الانتماءات الحزبية لكل منهم. بعد ذلك، انتقلت الأسئلة إلى عمله: طبيعته وتفاصيله وصلاحياته داخل الشركة. كان شربل متجاوباً في كل ما يُسأل عنه. سريعاً، عرض عليه الإسرائيليون «التعاون معنا في مجال عملك». وكالعادة، أغدقوا عليه الوعود. مباشرة، قبل عرضهما الذي تضمن تنصيب سليم وسيطاً بين المشغّلين والعميل الجديد.

ضابط من فرع المعلومات يعرض أجهزة مصادرة من عمـلاء (أرشيف ــ هيثم الموسوي)
لم تنته الجلسة عند هذا الحد. عاد الإسرائيليان للحديث عن تفاصيل عمل شربل في شركة سيليس. طلبا منه تقديم شرح مفصل عن كيفية توزيع محطات الإرسال، ونوعية الأجهزة المستخدمة. نفّذ ما طُلِب منه، ثم رسم خريطة أولية تظهر فيها أعمدة الإرسال المنتشرة على الأراضي اللبنانية. سألوه عن التردّدات التي تستخدمها شركة سيليس، فزودهم بالتفاصيل التي كان أحد الإسرائيليَّين مهتماً بها. وقبل انتهاء المقابلة، عرّف أحد رجال الاستخبارات الإسرائيلية عن نفسه، قائلاً لشربل إنه يدعى الضابط شاخر. وضع بين يدي عميله الجديد مبلغ 800 دولار، طالباً منه أن يُحضر معه إلى اللقاء التالي مستندات من الشركة تتضمن معلومات عن الموزعات الهاتفية في لبنان.
ودع شاخر شربل. عاد الأخير إلى السيارة، ليستلقي على المقعد الخلفي، تحت الشرشف ذاته. أعاده سليم إلى جزين، ومنها عاد بسيارته إلى بيروت. وقبل الموعد التالي الذي حدده سليم، جمع شربل ما طلبه مشغله: مستندات من شركة سيليس، إضافة إلى ملف كان في حوزته منذ أن كان يعمل في وزارة الاتصالات يحتوي على خرائط تبيّن توزيع أعمدة الإرسال وكيفية توجيهها وتردداتها. و«تبرّع» شربل برسم خريطة تظهر كل أعمدة الإرسال التابعة لشركة سيليس مع تردداتها.
بعد نحو شهر، اتصل به سليم طالباً منه الحضور إلى جزين، لأن شاخر يريد لقاءه. نفذ ما طُلِب منه: من بيروت إلى جزين. ومن هناك على المقعد الخلفي لسيارة سليم ريشا، تحت الشرشف، إلى بوابة فاطمة، ومنها إلى كريات شمونة.
بدأ الإسرائيليون «تغنيج» عميلهم. استقبله شاخر في مطعم تناولا فيه طعام الغداء، ثم انتقلا إلى غرفة ملاصقة للمطعم. جلسا، فحضر شخص «طويل، شعره أشقر». عرّف عن نفسه بأنه يُدعى سيمون، وأنه المسؤول عن شاخر. تجاذب أطراف الحديث مع شربل لدقائق معدودة، قبل أن يخرج من الغرفة. سلّم شربل المستندات التي في حوزته إلى شاخر، شارحاً عن أعمدة الإرسال والخرائط التي تبين توزيع أعمدة الإرسال. بعد دقائق، دخل عليهما شخص قال شاخر إنه خبير اتصالات. تباحث مع شربل في المعلومات التي زوّد مشغله بها. وما إن انتهى من ذلك، حتى نقده شاخر مبلغ ألف دولار أميركي، موصياً إياه بالبقاء على تواصل مع سليم.
عودة إلى الطريق ذاتها: السيارة. المقعد الخلفي. الشرشف. جزين. فبيروت.
منتصف عام 1997، اتصل سليم بشربل، قائلاً له إن الإسرائيليين يعرضون عليه مبلغ خمسين ألف دولار أميركي، لقاء تركيب أجهزة تنصت داخل أدوات بث إرسال الأجهزة الخلوية «ليتمكنوا من التنصت على حزب الله». رفض شربل العرض، قائلاً إن خطوة مماثلة «خطيرة جداً ويمكن أن تسبب ضرراً لي ولعائلتي في حال انكشافها». لكن سليم بقي مصراً على العرض، وكان في كل لقاء يذكّر شربل بالطلب الإسرائيلي، قائلاً له: «ليس عليك سوى إرسال بعض القطع الإلكترونية التي تُركَّب في الـBTS (اللوحات المثبتة على أعمدة الإرسال، والتي تربط الهاتف الخلوي بالشبكة) وهم يعدلونها، وبعدها يرسلونها لك لتركبها». إلا أن شربل أصر على رفض هذا العرض. وقبل مقتل سليم ريشا بأسبوع (قُتل بعملية للمقاومة في تشرين الثاني 1997) اتصل به وقال له إن شاخر رفع المبلغ إلى مئتي الف دولار أميركي، لقاء موافقته على تركيب أجهزة تنصت داخل الـBTS، إلا أنه تمسك بالرفض، بحسب ما أكد للمحققين في مديرية استخبارات الجيش. كان هذا آخر اتصال بين شربل وسليم.
مشغلوه يتمسكون به
بعد انقطاع الاتصالات لأشهر، وردَه اتصالٌ على هاتفه الخلوي من رقم لم يظهر على الشاشة. كان شاخر يتحدّث. عزّاه بوفاة سليم ريشا، طالباً منه معاودة العمل معه، فرفض هذا الأمر قطعاً، على حد قوله في جلسة التحقيق التي أجريت معه بعد يومين من توقيفه. بدا شاخر متمسكاً بعميله. طلب من شربل عدم التسرع في أخذ قرار، ناصحاً إياه بأن يتريث في التفكير، على أن يتصل به لاحقاً. يضيف شربل أن شاخر حاول على مدى أكثر من ثمانية أشهر إقناعه بالعودة إلى العمل مع الاستخبارات الإسرائيلية (كان يتصل به مرة كل شهرين تقريباً)، وكان شربل يواجهه بالرفض في كل مرة. انقطعت الاتصالات بينهما حتى عام 1999، عندما ورده اتصال دولي من شخص عرّف عن نفسه بأنه صديق شاخر (نسي شربل اسمه). المتصل عاد إلى العرض نفسه: تعاون معنا. يقول قزي إن صديق شاخر داوم على الاتصال به حتى عام 2005، «لكنني كنت في كل مرة أرفض».
بعد ذلك، اختفت الاستخبارات الإسرائيلية من حياة شربل، بحسب ما يؤكد في إفادته، إلى أن انتهت حرب تموز 2006. ففي شهر أيلول من ذلك العام، اتصل بشربل شخص من رقم دولي، قال إن اسمه عمر، وإنه ضابط من الاستخبارات الإسرائيلية، ومن «أصحابك القدامى»، كانت لهجة عمر توحي بأنه جزائري. قال إنه مقيم في فرنسا، ويرغب في لقائه «إذا أمكن ذلك». وافق شربل على العرض هذه المرة، وأبلغ مشغّله الجديد أنه سيلتقي به عندما تنتدبه شركة ألفا لإجراء دورة تدريبية في فرنسا.
أعطاه عمر رقم هاتفه الفرنسي، وعنوان بريده الإلكتروني، طالباً منه إخباره بموعد قدومه إلى العاصمة الفرنسية لترتيب لقاء بينهما. وعده شربل خيراً، فصار عمر يتصل به من وقت إلى آخر، عبر الهاتف أو بواسطة البريد الالكتروني، «للاطمئنان إليّ».
اللقاءات الأوروبية
في تموز 2007، أرسلت شركة ألفا شربل قزي إلى فرنسا لإجراء دورة تدريبية. حمل معه جهاز كمبيوتر يحتوي على كل المعلومات عن البرامج والمعدات التي سبق لشركة «ألكاتيل» أن زودت بها شبكة ألفا وأنظمتها، إذ إن بعض المعدات والأنظمة كانت معطلة، وعجز فريق الصيانة اللبناني عن إصلاحها. كان الهدف من أخذ الـ«لابتوب» الاطلاع من فنيين فرنسيين على كيفية معالجة الخلل. وقبل التوجه إلى باريس، اتصل شربل بعمر، مبلغاً إياه موعد الرحلة. طلب الضابط الإسرائيلي من شربل الاتصال بعد انتهاء الدورة التدريبية، ليعلمه بعنوان الفندق الذي ينزل فيه. استمر التدريب لأسبوعين، تطوع خلالها شربل بالاتصال بعمر، مبلغاً إياه تحركاته في العاصمة الفرنسية.
أتمّ شربل واجباته المهنية، واطلع من زملائه الفرنسيين على كيفية حل المشكلات التقنية التي تعانيها الشبكة التي تشغّلها شركته اللبنانية. اتصل بعمر، فطلب منه الأخير الانتظار في «لوبي» الفندق. حضر سائق سيارة أجرة، سائلاً عن شربل قزي. صعد الأخير بالسيارة، من دون غطاء هذه المرة. أوصله السائق إلى فندق ثانٍ. ومنه، بسيارة أجرة أخرى، إلى فندق ثالث. في الـ«لوبي»، تقدم من شربل شخص عرّف عنه نفسه: أنا عمر.
كان الفندق قريباً من جادة «شانزليزيه». «كزدر» عمر وشربل في جادة سان شارل، حيث تناولا الغداء في مطعم هناك. تجولا سيراً على الأقدام. كان اللقاء مخصصاً للتعارف. ختمه عمر طالباً من شربل أن يهيئ نفسه لجلسة ثانية في اليوم التالي.
في الصباح، تلقى شربل على رقم هاتفه اللبناني اتصالاً من عمر. طلب منه أن يستقل سيارة أجرة إلى فندق قرب برج إيفل. من أمام الفندق، تسلمه سائق تاكسي، وأقله إلى فندق مجاور لدار الأوبرا. كان عمر بانتظاره. صعد معه إلى إحدى الغرف حيث كان بانتظارهما شخص مسنّ قال عمر إنه رئيسه.
بدا عمر معنياً بطمأنة عميله لكي لا تتكرر فترة الانقطاع السابقة. قال لشربل: «أنت صرت واحداً منا. ووراءنا دولة كبيرة. نحن لا نريد الإضرار بك. وكل ما نريده هو العمل معنا في مجال الاتصالات». كان عمر يسأل، ويدوّن إجابات شربل. المشهد تكرار لما جرى قبل 11 عاماً قرب «بوابة فاطمة». سُئل عن وظيفته في الشركة، فأجاب بأنه مسؤول الصيانة. زوّدهم بأسماء الموظفين الذين يعملون معه، وباسم المسؤول عن أنظمة المعلوماتية في ألفا (IT). انتقل الحديث إلى تفاصيل تقنية عن لوحات البث الخلوي (BTS). رسم خريطة فصّل عليها أنواع الـBTS ومهماتها التقنية.
لم يطل انتظار شربل قبل أن يسمع السؤال الرئيسي: نريد كلمات المرور (password). ثم سأله عمر عمّا إذا كان بإمكانه إحضار الكمبيوتر المحمول الخاص بالشركة. يقول شربل في إفادته إنه رفض الطلب الإسرائيلي. في نهاية الاجتماع، أعطاه عمر مبلغ ألفي يورو، وشريحة هاتف يوناني، وعلاّقة مفاتيح تحوي مخبأً سرياً ليضع الشريحة في داخلها. أمره بأن يشتري هاتفاً فور وصوله إلى لبنان، على أن يضع فيه الشريحة اليونانية، ليتصل به مرة كل أسبوعين.
عند عودته إلى لبنان، نفّذ شربل توجيهات عمر، وبدأ يتواصل معه، أحياناً بواسطة الخط اليوناني، واحياناً أخرى مستخدماً هاتفاً عمومياً.
في الرحلة التالية إلى فرنسا، أخذ شربل معه ورقتين كتب عليهما بخط يده بروتوكولات الدخول إلى كمبيوترات الشركة، ومعلومات عن الخوادم (server) مع كلمات المرور الخاصة بها. ومن باريس، اتصل شربل بعمر، طالباً أن يكون اللقاء بينهما في بلجيكا. وافق عمر مباشرة، وزوّد شربل اسم فندق في بروكسل، محدداً موعداً للقاء. استقل قزي قطاراً إلى بروكسل، وما إن التقيا في الزمان والمكان المحددين، حتى أعطى شربل الورقتين لمشغله، قبل أن يصعدا إلى غرفة في الفندق. كان بانتظارهما «خبير اتصالات» يعمل مع الاستخبارات الإسرائيلية. سأل شربل عن الشركة، فأخبرهما عن خطط التحديث الموضوعة للشبكة، وعن كوابل بحرية تُستخدم للاتصالات اللبنانية. طلب منه عمر أن يجهز نفسه لزيارة إسرائيل في فترة لاحقة، حيث سيُدرَّب على وسيلة اتصال أكثر أمناً من الهاتف، واعداً إياه بأن تكون رحلته إلى إسرائيل محاطة بالسرية.
وفي هذه الجلسة، طلب عمر من شربل تزويده بواحدة من كلمات المرور الخاصة بشركة ألفا، فنفى شربل علمه بها. هذه المرة، كان نصيب شربل من مشغليه مبلغ ثلاثة آلاف يورو، وشريحة هاتف بريطاني. وأعطى عمر عميله توجيهات بضرورة شراء جهاز هاتف جديد لاستخدام الشريحة الجديدة عليه، مشدداً على عدم استخدام الجهاز الذي كان يستخدمه لتشغيل الشريحة اليونانية.
ومن بروكسل، اصطحب عمر شربل إلى باريس التي عاد منها شربل إلى لبنان.
ومن بيروت، استمرت الاتصالات بين الرجلين، إلى أن أوقف فرع المعلومات العميد المتقاعد من الأمن العام، أديب العلم. وبعده، «صار توقيف العملاء أمراً سهلاً»، فعادت المخاوف لتحتل ذهن شربل الذي أتلف الشريحة البريطانية، وخبأ جهازَي الهاتف داخل مكتبه في الشركة، وقطع اتصالاته بعمر، إلى أن أوقفته مديرية استخبارات الجيش في حزيران 2010.
بعد توقيفه، لم يكن شربل قزي عنيداً. انهار سريعاً. في جلسة التحقيق الأولى التي أجريت معه فور نقله إلى مبنى وزارة الدفاع في اليرزة، سأله المحققون عن حياته. حدّثهم عن طفولته، وعن دراسته وحياته المهنية. ولم يتأخر قبل الاعتراف بعلاقته بالإسرائيليين. فقبل نهاية اليوم ذاته، كان قد أقرّ بأنه التقى ضباطاً من الاستخبارات الإسرائيلية في فرنسا وبلجيكا، فضلاً عن إجراء اتصالات إسرائيلية به. وفي جلسة التحقيق ذاتها، أقر بأنه زود مشغليه بمعلومات عن زملائه في الشركة، وأبرزهم «ح. و.»، «س. ص.»، «خ. ب.»، «ج. ح.» و«س. ق.». وتحدّث عن أنه أخبر الإسرائيليين بتفاصيل تقنية عن الأجهزة والمعدات التي تستخدمها شركة ألفا في شبكتها الخلوية، إضافة إلى الترددات التي تعمل هذه الشبكة عليها، فضلاً عن سعة الاتصالات. وفي ختام جلسة التحقيق ذاتها، سئل عما إذا كان قد تقاضى مبالغ مالية من الإسرائيليين، فأجاب بأنه حصل منهم على خمسة آلاف يورو على دفعتين في فرنسا وبلجيكا.
وبعد مضي يومين على بدء استجوابه، كان شربل قد أفاد المحققين بتفاصيل علاقته بالاستخبارات الإسرائيلية بدءاً من عام 1996، وصولاً إلى تاريخ قطعه لها عام 2009.
كذلك سأله المحققون في جلستهم الأولى معه بالتفصيل عن حركة سفره إلى الخارج، فكانت ذاكرته لا تزال تحفظ رحلاته بالتفصيل، فضلاً عن استعانة المحققين بلوائح الأمن العام. وقد تبيّن أن شربل سافر إلى إيطاليا ثلاث مرات خلال الثمانينيات، حيث كانت ترسله وزارة الاتصالات للقيام بدورات تدريبية على تشغيل أجهزة ومعدات وصيانتها. وإلى فرنسا، سافر نحو 4 مرات في الفترة ذاتها، وللهدف عينه. وما إن انتقل إلى العمل في شركة سيليس، حتى أرسلته الشركة إلى فرنسا في مهمة تدريب على عمل أنظمة الـGSM الخلوية المعتمدة في لبنان، مدتها عشرة أيام. وفي عام 1998، قصد إيطاليا حيث خضع لدورة تدريب مدتها أسبوعان، قبل أن يقضي شهراً في فرنسا.
وعام 2000 سافر إلى فرنسا وألمانيا أكثر من مرة، في مهمات تدريبية أيضاً. وقبل أن تشتري شركة ألفا معدات من شركة ألكاتيل، أرسلت شربل لمتابعة دورة خاصة في الشركة الأخيرة، عام 2002. وفيما انقطع شربل عن السفر في مهمات عملية حتى عام 2006، فإنه قصد دول يوغسلافيا السابقة في رحلة دينية عام 2003. وبعد ثلاث سنوات، عاودت الشركة إرساله إلى أوروبا في مهمات تدريبية، اصطحب خلالها زوجته معه، وكذلك الأمر عامي 2007 و2008 (مرتين إلى فرنسا). وفي الرحلات الباريسية الثلاث الأخيرة، التقى شربل الضابط الإسرائيلي عمر الذي أعاد تشغيله لحساب الاستخبارات الإسرائيلية.
ويؤكد قزي في محضر التحقيق أنه لم يلتق في سفراته كلها بأيّ من العاملين مع الاستخبارات الإسرائيلية، باستثناء الرحلتين اللتين قام بهما إلى العاصمة الفرنسية عامي 2007 و2008.
وبحسب إفادته، فإنه بعد قطع اتصالاته بمشغليه، سافر مرة واحدة عام 2009 مع زملاء له في الشركة إلى الصين لإجراء دورات تدريبية على أجهزة تنتجها شركة «هواوي»، التي كانت شركة ألفا تنوي عقد صفقة معها لشراء معدات منها.
وتُظهر محاضر التحقيق مع زميل شربل، طارق الربعة، أن الاستخبارات الإسرائيلية طلبت منه وقف هذه الصفقة، لأنها ستعوق قدرة الإسرائيليين على دخول الشبكة اللبنانية.
غداً: طارق الربعة: مهندس الشبكات الذي جندته «استخبارات الناتو»
________________________________________
دورة في أوروبا كل سنتين
كانت حظوة شربل قزي داخل شركة تشغيل الخلوي أكبر مما تعطيه إياه صلاحياته الرسمية. وقد مكّنه ذلك من الحصول على معلومات أكثر مما تجيز له الأنظمة المعمول بها في الشركة. ومن الإشارات إلى ذلك، ما بيّنه الكشف على كمبيوتره المحمول عن عدد من اللوائح التي تتضمن أرقاماً تسلسلية لخوادم عدة مع أنواعها وكلمات الدخول إليها، إضافة إلى لوائح بالعديد من البروتوكولات التي يتمكن عبرها من دخول عدد من الخوادم، فضلاً عن كلمات المرور والرموز التي يستخدمها موظفون في الشركة للوصول إلى أنظمة الشركة من أي مكان في العالم.
أما سبب «الهيبة» التي كان قزي يحظى بها في الشركة، فعائد إلى خبرته الطويلة في مجال الاتصالات. فهو كان قد عمل في مجال الإلكترونيات في عدد كبير من الشركات داخل لبنان وخارجه (شركة TMA للشحن الجوي، شركة لتنقية المياه في العراق...)، قبل انتقاله للعمل في وزارة الاتصالات منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، رئيساً لأشغال صيانة الاتصالات في مديرية الصيانة. وقد شارك قزي في شركة سيليس بتأسيس شبكتي الهاتف الخلوي في لبنان. وإضافة إلى ما ذُكِر، واكب قزي تطورات عالم الاتصالات، من خلال خضوعه لدورات تدريبية في أوروبا، منذ بداية الثمانينيات، بمعدل دورة كل سنتين تقريباً.
________________________________________
أسباب انكشافه
في اللقاء الأخير الذي جمعهما في بلجيكا، طلب الضابط الإسرائيلي عمر من شربل قزي عدم وضع شريحة الهاتف الخلوي البريطانية على الجهاز الذي كان يستخدمه لتشغيل الشريحة اليونانية. وبدلاً من أن يتلف قزي الهاتف الأول، فإنه احتفظ به، وأبقاه معه إلى أن ضمّ إليه الهاتف الثاني الذي شغّل بواسطته الشريحة البريطانية. وعندما خاف قزي من انكشاف أمره، أتلف شريحة الهاتف، وأبقى الجهازين في مكتبه.
في وقت لاحق، استخدم قزي أحد الجهازين لتشغيل شريحة هاتف لبنانية جديدة، اشتراها من دون إبراز أوراق ثبوتية، وخصصها للتواصل مع إحدى صديقاته.
ما قام به قزي كان أحد أسباب انكشاف هويته. وفي الأيام الأخيرة التي سبقت توقيفه، وُضِع هاتفه الجديد (الذي يستخدمه للاتصال بصديقته) تحت المراقبة الجغرافية. وتسمح تقنية المراقبة هذه للجهاز الأمني بتحديد الموقع الجغرافي لحامل الهاتف كلما أجرى اتصالاً أو بعث برسالة نصية (SMS)، سواء كان في حالة المرسل أو المتلقي. وآخر موقع سُجّل للهاتف المذكور كان من عمود إرسال قرب وزارة الدفاع. لكن قزي لم يكن يجري اتصالاً بأحد، بل كان قد صار في قبضة الجيش.
والمعلومات التي استخلصتها مديرية استخبارات الجيش من التحليلات التقنية لبيانات الهاتف الخلوي، تقاطعت مع معطيات كان قد وفّرها جهاز أمن المقاومة للمديرية، تشير إلى الاشتباه في تعامل قزي مع الاستخبارات الإسرائيلية.
وكان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، قد سأل في خطاب ألقاه يوم 16 تموز 2010، عمّا إذا كان فرع المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي يعرف أن قزي يتواصل مع الاستخبارات الإسرائيلية، فردت المديرية حينها في تقرير رفعته إلى وزير الداخلية زياد بارود ذكرت فيه أنها كانت تشتبه في رقم هاتف خلوي مستخدمه مجهول، وأنها لم تتمكن من تحديد هويته إلا في اليوم التالي لتوقيفه، بعدما وردتها آخر دفعة من بيانات الهواتف الخلوية من وزارة الاتصالات، التي ظهرت فيها اتصالات لشربل قزي يومي 9 و10 حزيران 2010.
ويؤكد مسؤولون في المديرية أن تحليل المواقع الجغرافية للأرقام الأمنية الأجنبية التي استخدمها قزي للاتصال بمشغّليه لم تسمح بتحديد هويته، وخاصة أن الاحتمالات التي تُظهرها البرامج التي يستخدمها فرع المعلومات وضعته في مرتبة متدنية جداً، وبالتالي «كان ينبغي الاشتباه بعشرات الأشخاص قبل الوصول إلى قزي». وقد بقي هذا الأمر موضع تشكيك جهات أمنية لا تزال مقتنعة بأن ما لدى فرع المعلومات من أجهزة ومعدات وبرامج تقنية كفيل بتحديد هوية قزي قبل استخبارات الجيش.
العدد ١٢٩٨ الخميس ٢٣ كانون الأول ٢٠١٠
الاخبار

No comments:

Post a Comment