Tuesday, January 25, 2011

نجـيــب مـيـقـاتـي: الـزعـيـم المـبـتسـم.. يشــرب حلـيــب السـبـاع
ميقاتي بعد تكليفه تشكيل الحكومة (عباس سلمان)
خضر طالب
منذ أن أطل نجيب ميقاتي إلى طرابلس من البوابة السياسية في العام 1998 كوزير في حكومة الرئيس سليم الحص، «فاحت» منه «رائحة» طموح سياسي لا يقف عند حدود تلك الحقيبة
الوزارية.
بسرعة قياسية، استطاع ميقاتي خلع بذلة رجل الأعمال وفصّل على قياسه بذلة خاطها في أسواق طرابلس التي تمكّن من عبور كل أبوابها، فإذا به يفرض نفسه في معادلة
المدينة خياراً آخر.
لكن ميقاتي الذي احترف تدوير الزوايا، أمسك بطرف اللعبة السياسية داخل المدينة لأنه يعرف أن طرابلس قادرة على حمله إلى تحقيق طموحاته، وانشغل بتفاصيل التفاصيل
التي لا يمكن لأحد تجميعها.
كثيرون كانوا يعتقدون أن نجيب ميقاتي لا يستطيع تجاوز العوائق الكبيرة أمام بلوغ مراميه بذلك الهدوء وسياسة المهادنة لكل الأطراف، وإدارة الظهر لكلّ تحدٍّ يواجهه.

وكثيرون كانوا يأخذون على نجيب ميقاتي أنه لا يمكن تسجيل نقطة له أو عليه لأنه يتقن السير بين النقاط، وأنه يستطيع الإفلات بسهولة من الزوايا التي يحشر فيها.
لكنه كثيراً ما كان يردّ على بعض أولئك «المنظّرين» بثلّة اسئلة متتالية: هل تمكنت من الفوز بالنيابة يوماً؟ فيردّ «المنظّر» بالنفي، هل استطعت أن تصبح وزيراً؟
فيكرر «المنظّر» النفي، هل أصبحت رئيس حكومة؟ يتكرر النفي بهزّ الرأس، وهل استطعت أن تجمع ثروة؟ فيصمت «المنظّر» تاركاً لميقاتي أن يستطرد بالقول: «أنا فعلت
كل ذلك، فمن منّا يكون الصح؟».
كثيرون كانوا يعتقدون أن هذا المتحدّر من عائلة متديّنة كان «ميقات» الصلاة في الجامع المنصوري الكبير يُكتب بما يملكونه من علوم دينية، وأن «إرث» جدّه «الميقاتي»
الأول في ذلك الجامع الذي انصرف عن هموم الدنيا، يشير إلى أنه لا يمكن له أن يخرج من تلك العباءة الدينية وذاك الصوت المنادي لجمع الناس تحت قبة التقوى.
نجح نجيب ميقاتي في عبور محطات صعبة من الأزمات، وتجاوز خمس سنوات من الانقسام في لبنان بأقل قدر ممكن من الخسائر التي كان يسلّم بها طوعاً وبابتسامة لا تفارق
وجهه، برغم ضغط متواصل من جمهور لطالما ألحّ عليه بموقف يشدّ من أزره ويُمسك العصب الشعبي.
استمع كثيراً إلى تلك النصائح التي تؤكّد له أن الزعامة لا تبنى بحبّة دواء من هنا ومساعدة اجتماعية من هناك ولا بمنحة تعليمية كانت كلّها تصرف على من يشاء
من دون تدقيق في الولاء السياسي لطالبها.
هو اختار يوم الجمعة تحديداً من كل أسبوع ليستقبل الناس ويلبي طلباتهم بينما يحمل عز الدين مفكرته ليسجّلها، لكنه في ذات الوقت حوّل هاتفه الخلوي إلى «مكتب
مراجعات»، وهو الذي عُرف عنه أنه يمتلك ذاكرة نشطة جداً تفاجئ صاحب الحاجة باتصال هاتفي مربك من زعيم ما اعتادوا على طينة من نوعه لإبلاغه بتحقيق مطلبه.
فلسفة الرجل أن المساعدة لا يجب أن تقرن بشرط الولاء وهي كانت موجودة قبل دخوله المعترك السياسي، لكنها فلسفة نجحت في «التسلّل» إلى قلوب كانت تدين بالولاء
تاريخياً لهذا الموقع السياسي أو ذاك، أو أن مصالحها ترتبط بهذه الجهة أو تلك، فعطّل العديد من أدوات المواجهة مع قياداتهم وأفرغ تلك القواعد من أشرس الخصوم،
قبل أن يستدرج كثيراً منهم إلى محيطه.
كل ما يمكن أن يقال عن نجيب ميقاتي كان يعرفه جيداً، فهو شغوف بالرسائل القصيرة (SMS) التي يتلقاها على هاتفه من كل زاوية في أحياء المدينة تخبره بما يقوله
الناس فيه إيجاباً أو سلباً، وبات يملك موسوعة من «التوصيفات» التي تطلق عليه، لكنها كلّها لم تشكّل يوماً عنصراً ضاغطاً لإحداث تغيير في أدائه وسلوكه واستراتيجيته.

فجأة تغيّر نجيب ميقاتي وانكشف «ليث» يتخفّى خلف تلك الابتسامة الوادعة، ويقدّم نفسه كرجل صلب لا يتهاون ولا يخاف ولا يرضخ.
اختار نجيب ميقاتي التوقيت.. اقتحم المحطة الصعبة.. وهو يدرك أنه بات يقف على أرض صلبة في مدينة أصبحت تحتضن «حالته».
هو يعرف جيداً الآن حجم رصيده في الشارع.. انتهى من بناء المرحلة الأولى في مشروع الزعامة الشعبية بعد أن قرأ جيداً تجربة عبد الحميد كرامي ورشيد كرامي وصائب
سلام ورياض الصلح ورفيق الحريري.. وغيرهم الكثير من الزعامات التاريخية، لكنه رسم خريطة طريق بين كل هؤلاء باحثاً عن هوية شخصية وبصمة خاصة لا تكون تقليداً
لأي منهم، وإن كان قد استفاد من تلك التجارب التاريخية.
ليست زعامة تقليدية تلك التي يبنيها، وليست لها وراثة عائلية ـ اقله حتى الآن ـ برغم أن عائلته تشكّل النواة الأولى لفريق العمل: الشقيق الأكبر طه هو في موقع
الأب الذي لكلمته وقع خاص عنده. وابن الشقيق عزمي هو العقل الإداري الذي في عهدته إدارة الأعمال لكنه يجد نفسه، مع شقيقه فؤاد، محكوماً في زمن الاستحقاقات «بوضع
كتف» مع العمّ نجيب.
أما أولاده ماهر ومالك وميرا، فإنهم معنيون ببناء أنفسهم وإدارة شؤونهم بعيداً عن السياسة.. إلا في سياق إطلالات خجولة ومحببة في المناسبات.
لكن «أبو ماهر» الباحث عن زعامة خارج الواقع العائلي، بنى مؤسساته الخيرية برفع إسمي والديه الراحلين عزمي وسعاد، ومنهما اشتق اسم جمعيته «العزم والسعادة»،
وكذلك تيار العزم.
في العمل الميداني يحاول نجيب ميقاتي على الدوام «اكتشاف» الطاقات المحيطة به من الشباب، فيستمع إلى عبد الإله وينصت إلى رامي ويطلب من مصطفى ويبتسم لعبد الرزاق
ويمازح يوسف ويسأل خلدون.. لكنه أيضاً يعطي أدواراً لكل المحيطين به على قاعدة أن «لكل واحد دوراً»، فتتوسّع حلقة المستشارين إلى من هم خارج الصورة الظاهرة
على الملأ، ويوظّف علاقاته المتشّعبة لبلورة موقف ما أو خطوة ينوي القيام بها.
يملك نجيب ميقاتي «بنكاً» من المعلومات التي يختزنها في رأسه، يعرف متى يبوح بشيء منها وبماذا يبوح، وكيف يوظّفها لأدائه السياسي ومواقفه التي كانت حتى ما قبل
قرار ترشيحه توصف بالرمادية.
يعترف نجيب ميقاتي أنه في المرحلة السابقة كان يتفادى الاصطدام مع أحد، باستثناء الاستحقاقات الانتخابية الطرابلسية التي استفاد من خبراتها باعتبارها «تمارين»
تساهم في «تأهيله» لاستحقاقات انتخابية أكبر، في حين أنه كان «يفرّ» من معارك صغيرة لا يرى فيها ما يفيده في أوقاتها.
اختلف نجيب ميقاتي، كأنه «شرب حليب السباع»، لكن عارفيه يدركون أنه ما كان ليقدم على هذه الخطوة لولا أنه «حسبها جيداً» في حين أن المتحمّسين يعتقدون أنه حسم
خياراته أخيراً وقرر بناء زعامته الشخصية التي لطالما كانوا يناقشونه في آلية بنائها.
خلال اليومين الماضيين كان نجيب ميقاتي يتابع من مكتبه في بيروت بدقة ما يجري في طرابلس، حوله ورشة عمل غير معتادة في هذا المكتب الهادئ. يتفحّص بعيون ثاقبة
قلق المحيطين به وما تنطق به أعينهم من خشية أن تؤثر في قراره أعمال الشغب، فإذا به يباغتهم باتصال هاتفي من هنا يسجّل فيه موقفاً حازماً، ثم يرمي بينهم فكرة
للنقاش توحي لهم بالثقة، ويخرج باستدعاء من شقيقه طه ثم يعود مبتسماً: «الشارع اليوم لهم.. لكنه بعد ذلك سيكون لنا»، يطمئن الحاضرين إلى عناده وصلابة قراره،
ثم يعود إلى التحديق في غرض ما على مكتبه أو إلى لوحة في الحائط مفكّراً بهدوء لا تعكّره نقاشات المحيطين به.
ينتظر نجيب ميقاتي انتهاء «يوم الغضب» ليبدأ «يوم الفرح» في طرابلس، وهو يعرف جيداً أن له في المدينة من الرصيد ما يكفي لعودته إليها مظفّراً بإعادة رئاسة الحكومة
إليها، بل وبعودة «الثنائية» التي تستعيد موقع طرابلس ودورها في المعادلة اللبنانية من موقع الشريك المنافس.. وليس من موقع الملحق.
السفير 26 كانون الثاني 2011

No comments:

Post a Comment