Saturday, May 28, 2011

فوضى الهبّات العقارية تجتاح منصة تمثال الشيخ بشارة الخوري

يغالي معظم اللبنانيين في طلب الرفاه والأناقة في حياتهم الفردية والخاصة، سكناً وملبساً واقتناء سيارات فارهة، قدر مغالاتهم في إزدراء المنشآت العامة والمشتركة وإهمالها. والأرجح أن هذين الوجهين ليسا متعارضين، بل هما يصدران عن ثقافة وسلوكٍ لبنانيين يوحدهما الاستئثار والأنانية. ومن المشاهد الجزئية لهذه الاستباحة إحتلال مستوعبات لإيواء عمال ورش البناء، منصة تمثال الشيخ بشارة الخوري.

من عادات العابر اليومي في شوارع المدينة وأماكنها العامة، ألا تستوقف بصرَهُ ووعيه الشاردين مشاهد العمران في تفاصيله وأشكاله ونظامه، تلك التي تطالعه في عبوره وتنقله المستعجلين في السيارة أو سيراً. فعلماء اجتماع الحياة اليومية المدينية، يجمعون على أن من خصائص رجل (أو إمرأة) المدينة العابر والمتنقل في أماكنها العامة – إن لم يكن سائحاً أو متنزهاً أو مستطلعاً متمهلاً - أن تسترق الغفلة حواسه، برغم توترها واستنفارها في الزحام والضجيج للذين يصعب العيش في خضمهما من دون غفلة الحواس وشرودها، وانصرافها عنهما بالاستغراق في شؤون ذات النفس والحال وشجونهما، دفاعاً عن الذات والنفس. فالانكفاء الى الذاتية والفردية المغفلة، من ركائز نظام الحياة المدينية في الأماكن العامة.


الرفاه الخاص والانحطاط العام

هذا كله يفترض أن عمران المدينة ودورة حياتها اليومية العامة، يستلزمان نظاماً صارماً ودقيقاً لإدارتهما وصيانتهما، وإلا يغرقان في فوضى عارمة، على ما هي عليه حال بيروت في معظم مناطقها وأحيائها اليوم ومنذ زمن بعيد. ومن مفارقات حياتنا اللبنانية أن اللبنانيين في وجه عام، يتشددون ويغالون في طلب الرفاه والأناقة في حياتهم الفردية والخاصة، سكناً وملبساً واقتناء سيارات فخمة وغيرها من سلع الاستهلاك المحدث، في مقابل مغالاتهم في إهمال الاهتمام بأي من شؤون الحياة العامة المشتركة، عمراناً وخدمات وتنظيماً لسير السيارات وغيرها من وسائل النقل، وأرصفة وأماكن استراحة وترفيه عمومية. والأرجح أن هذين الوجهين للمغالاة، ليسا متعارضين إلا شكلياً، إذ هما يتقاطعان ويتداخلان في صدورهما عن ثقافة وسلوك لبنانيين – وإن بتفاوت بين الجماعات – يحكمهما الاستئثار والأنانية المستفحلان والمنفلتان من كل حدّ وضابط. وإلا ما معنى الإمعان في تدمير كل ما هو عام ومشترك، وفي أحسن الاحوال إنعدام المسؤولية حياله، وتركه للإهمال والتآكل والانحطاط، في مقابل الإمعان المرضي العام في طلب الرفاه الفردي والشخصي والخاص؟! كأن اللبنانيين لا يستثمرون طاقاتهم وجهدهم وما يتمتعون به من حرية وحسٍ جمالي، إلا في المجال الفردي الخاص، تاركين كل ما هو عام ومشترك إما للتسيب، أو للإستيلاء عليه والتصرف به كملك خاص. ومثل هذه الثقافة تنطوي على تقديس الخاص ونصبه وثناً للعبادة، في مقابل إزدراء العام والمشترك ومناصبته العداوة والحرب.
هكذا انحط العمران المدني ونظامه في لبنان، وتُركت منشآت الحياة المدينية العامة وخدماتها وبيئتها ومشاهدها للفوضى والاستباحة.


فوضى الهبّات العقارية

من المشاهد التفصيلية لهذه الاستباحة، تلك المستوعبات الثلاثة الرمادية المتلاصقة على المنصة الخاصة (العامة) بتمثال الرئيس الراحل الشيخ بشارة الخوري. والعابر الناظر الى مشهد هذه المستوعبات التي احتلت الحيز الأكبر من المنصة وحوّلتها ما يشبه مستودعاً، لن يدري لماذا وضعت وما هي وظيفتها، إلا حين يرى آلات تكييف الهواء على سطحها، ما يعني أنها تستعمل، كغيرها في أماكن كثيرة، لإسكان عمال ورش البناء. أما كيف يمكن إحتلال منصة تمثال بمستوعبات لإيواء عمال، ومكاتب مهندسين، والإعتداء السافر على منشأة عامة ورمزية، ويفترض أنها أنشئت لتكون مشهداً للنظر العمومي ولتزيين الحيز العام؟! فسؤال جزئي وصغير في سياق الاستباحة العمرانية العامة، والتسابق على الافادة من الهبة العقارية العاتية التي تجتاح مناطق كثيرة من بيروت وضواحيها.
والهبة العمرانية العقارية هذه وسابقاتها المتلاحقة منذ سنين كثيرة، حوّلت الشريط الساحلي اللبناني الضيق والجبال المطلة عليه، عقاراً واحداً موحداً تتناهبه الفوضى والتعديات، حسب روزنامات الجماعات المختلفة والمتفاوتة في هباتها العقارية. فبعضها يندفع تحت إلحاح توسع ديموغرافي وعمراني عشوائي، وفائض من القوة والسطوة، في مناطق كثيرة. وبعضها الآخر ينكفئ ديموغرافياً وعمرانياً للدفاع عن هوية مهددة في مناطق معينة، ضعفت سطوة أهلها وما عاد ينفعهم طلب الحماية من أجهزة دولة سائبة وعلى حافة الانهيار. وهذا يجعل من لبنان العمراني والعقاري، مرآة جغرافية وديموغرافية وسكانية لحروب اللبنانيين العلنية، الساخنة والدموية، والباردة والخفية، ولنمط عيشهم و"تعايشهم"، وأعمالهم المندفعة في جعل العقار مصدراً أساسياً للاستثمار والإثراء السريع، حتى في مناطق العمران العشوائي المكتظة والبائسة التي يستعمل أهلها فائض قوتهم في التنافس المحموم على الاستيلاء على أملاك خاصة وعامة. والعامل الحاسم في استثمار الهبات العقارية والعمرانية المتتالية، العشوائي غير المشروع منها وغير العشوائي، هو الفوضى والاستئثار والتحاسد والتسابق واقتناص الفرص وصولاً الى ربح سريع.
مستوعبات العمال والمهندسين
ليست مستوعبات منصة تمثال الشيخ بشارة الخوري، سوى عينة جزئية وتفصيلية من فوضى ورش الانشاءات العامة والبناء الخاص في المنطقة المحيطة بالمنصة، ما بين طرف كورنيش رأس النبع والتقاء شارع بشار الخوري بطريق الشام، على الطرف الشرقي لوسط بيروت الجديد. فالمستوعبات الأربعة على المنصة وغيرها القريبة منها، وضعها متعهد إنشاءات أو ورش لبناء نفق تحت تقاطع بشارة الخوري. أما قطع الارض المحاذية للمنصة المرتفعة قليلاً عن الرصيف، فتعمل فيها جرافات وحفارات آبار ارتوازية في ورش تشييد مبانٍ خاصة، لا يستبعد أن يكون أصحابها أو متعهدوها هم الذين وضعوا المستوعبات لإيواء عمال يعملون غالباً بلا إجازات عمل ولا ضمانات صحية ولا تعويضات، وهم في الغالب من التابعية السورية، وكانوا في ما سبق ينامون في العراء وفي مناطق الاحتلال والتهجير، قبل إخلائها. أما في أزمنة ما قبل الحرب (1975) وما بعدها بمدة، فكان مشيدو الابنية يؤوون عمالهم في أكواخ داخل الورش والابنية قيد الانشاء. وفي السنين الأخيرة درج إيواء عمال البناء في المستوعبات الجاهزة التي توضع في أماكن قريبة من الورش، وغالباً ما تكون أماكن عامة، إذ يصعب العثور على غيرها سائبة وخالية، وبلا حسيب ورقيب، ومنها منصة تمثال بشارة الخوري، حيث يصعب التمييز في قطع الارض المحاذية لها، ما بين ورش الانشاءات العامة المهملة منذ شهور، وتشييد المباني الخاصة التجارية التي يتسارع العمل فيها بقوة عاتية.
فساحة السوديكو نزولاً حتى تقاطع شارع بشارة الخوري مع طريق الشام، لا تزال منطقة لم تعثر على هوية ووظيفة عمرانيتين. والساحة ومنصة التمثال المتروكتان للتسيب والاهمال، هما مسرح تقاطع سير وعبور ما بين "البيروتين"، وهما قريبتان من وسط بيروت الجديد، وتصب فيهما تقاطعات السوديكو ورأس النبع وحوض الولاية والخندق الغميق. لذا هب العمران الخاص في جنبات الساحة، مختلطاً بالانشاءات العامة، من دون أن تنبئ هذه الهبة بعدُ بالشكل والهوية العمرانيين للساحة ومحيطها القريب. لكن الأكيد والواضح أن العمران الجديد جرف عدداً من البيوت البيروتية القديمة أو التراثية التي هُدِمت ولا تزال بقايا بعضها تنتظر استكمال الهدم خلف منصة التمثال. وهذا يعني أن المستوعبات الثلاثة سوف تبقى في مكانها ما يشاء متعهدو الورش الكثيرة المتناسلة.

محمد أبي سمرا

No comments:

Post a Comment