Saturday, July 30, 2011

دير القمر تستقبل رئيس الجمهورية والبطريرك الراعي الأحد المقبل
وكنيسة سيدة التلة كانت تُعتبر حَكَماً في خلافات المسيحيين والمسلمين والدروز

main/p13-02-24464

main/p13-01-24464

كنيسة سيدة التلة.
كنيسة سيدة التلة من الداخل.

main/p13-05-24464

main/p13-03-24464

تمثال القديسة رفقا.
ضريح شهداء دير القمر سنة 1860.

main/p13-04-24464

تمثال سيدة التلة.
تحتفل دير القمر هذه السنة، ككل سنة، بعيد شفيعتها سيدة التلة، التي يترافق تاريخها مع تاريخ "الدير"، وهي بمثابة نقطة الدائرة من هذه المدينة، وقلبها، والمركز
الذي يستقطب كل ابنائها.

العيد سيمتدّ ثلاثة ايام تبدأ مساء الجمعة في الخامس من آب بزياح وطواف بصورة السيدة العذراء، تعقبهما في اليوم التالي، قداديس، ويتوَّج العيد صباح الأحد، بقدّاسٍ
احتفاليّ يقيمه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ويحضره رئيس الجمهورية ميشال سليمان وأهالي دير القمر وجوارها. ويعدّ الديريون للبطريرك استقبالاً حافلاً يعبّر
عن تعلُّقهم بشخصه وبالسدَّة البطريركية، وخصوصاً أنَّ كاتدرائية سيدة التلة هي من أعرق وأفخم كنائس الطائفة المارونية.
ليست سيّدة التلة مجرَّد معبدٍ للصلاة، بل هي في نظر أهل دير القمر والشوفيين، على تعدُّد طوائفهم، رمز معنويّ يحظى بإجلالٍ عميق. وقد اشتهرت بأنها موضع الاحترام
والمحبة من الحكام واللبنانيين، وكان رجال اقطاع منطقة المناصف الشوفية من آل ابي نكد الدروز يأخذون قليلاً من تراب ارضها ويضعونه في عمائمهم تبرُّكاً قبل ذهابهم
الى المعارك. وفي الأنطش التابع لها كان الحكام، زمنَ الشهابيين، يضعون علَم البلاد ولا يُخرجونه منه إلاّ حين ذهابهم الى الحروب مع رجالهم. وليس الحكام وحدهم
مَن كان يلجأ اليها في الساعات الحرجة، فقد أجمع المسيحيون والمسلمون والدروز على اعتبار سيدة التلة حَكَماً في خلافاتهم، وكانوا يقصدونها ليحلفوا اليمين أمامها
إثباتاً لصدق قولهم.

تاريخ كنيسة سيدة التلة
بُنيت كاتدرائية سيدة التلة على انقاض هيكل وثني روماني اقيم لعبادة الاله "القمر"، وقد عُثر في انقاض هذا الهيكل على ناووس حجري صار جرن معمودية حين تحوَّل
الهيكل معبداً مسيحياً على اسم العذراء مريم في العصور المسيحية الاولى. وهناك حجر تاريخي ذو نتوء يمثّل قوساً ضمنها القمر وفوقه الصليب.. يعود الى العهد البيزنطي
حين قدم فريق من الموارنة من منطقة بشرّي بقيادة عدد من الرهبان.. ليقيموا في دير القمر في بداية القرن السادس عشر، وعندما شاء رئيسهم الاب عبدالله معربس ان
يبني ديره في هذا المكان الذي كانوا يسمّونه "التلة" وجدوا الحجر البيزنطي بين الانقاض، ففرحوا برؤية الصليب المنقوش عليه لأن في ذلك دلالة الى ان مسيحيين سبقوهم
الى بناء معبد لهم في ذلك المكان. وتبيَّن من القمر المنقوش تحت الصليب ان هذا المعبد كان للسيدة العذراء على التلة، فسمّوا كنيستهم "سيدة التلة"، وسمّى الاهلون
بلدتهم "دير القمر". موقع الكنيسة – الكاتدرائية هو ما يسمّى اليوم بحارة الخندق شرقيَّ البلدة، وهي تنهض على تلة من الانقاض القديمة تحت قصر الاميرة "أمّ دبّوس"
وقصر الشهيد الشيخ جرجس باز، والى الشرق من دار الحكم الشهابية المعروفة بسرايا الامير يوسف.
ويقول الاب هنري لامنس اليسوعي في كتابه "تسريح الأبصار في ما يحوي لبنان من الآثار": "جاء في التواريخ القديمة ان القديس رابولا السميساطي قدم لبنان في ايام
الملك زينون البيزنطي في القرن الخامس وتنسّك في احد جباله حيث شاد ديراً وكنيسة على اسم السيدة العذراء، ويفيد المؤرخون ان ذلك المكان كان في دير القمر". ويرجَّح
كون هذه الكنيسة قد اعيد بناؤها في القرن الثالث عشر على تلة من دير القمر بالقرب من منابع المياه على يد جمعية الفرسان التوتونيين الالمانية، وذلك عندما سلَّمهم
يوليانوس الصيدوني بلدة دير القمر مع احدى وثلاثين قرية من الشوف في العام 1261. وفي العام 1745، وبالاتفاق مع اهالي دير القمر، تسلَّمت الرهبانية الحلبية المارونية
(المريمية اليوم) كنيسة سيدة التلة. وفي 1750 تسلمت هذه الرهبانية الارض الملاصقة للكنيسة هبةً من الستّ أمون، والدة الامير يوسف الشهابي، وبنت فيها "الأنطشَ"
لسكن الرهبان. في العام 1246 هجرية اضيفت الى كنيسة سيدة التلة، في الطرف الغربيّ منها، قنطرة جديدة جُعلت قسم النساء، وذلك بموجب رخصة من الامير بشير الثاني
ومسعى من غالب آغا شاوول نعمه الذي دُفن في ما بعد في دار هذه الكنيسة (أزيل المدفن اليوم) على ما سآتي ذكره. وفي جوار الكنيسة مدفن شهداء دير القمر (1860)
الذي رُمِّم في بداية الخمسينات.
يذكر انه من اصل كنائس دير القمر التسع هناك ستٌّ منها على اسم السيدة العذراء، وهي: سيدة التلة، سيدة الدلغانة، سيدة الحبل بلا دنس، سيدة الفقيرة، سيدة البشارة
وسيدة النجاة.

حادث تعرضت له الكنيسة
قبة الجرس في الكنيسة كان يعلوها تمثال للسيدة مصنوع من الفخّار، ففي يوم 29 تشرين الثاني من عام 2002 هبَّت عاصفة هوجاء على دير القمر واستمرت في هياجها حوالي
العشر دقائق، فكان من نتيجتها سقوط التمثال الفخّاري، فتحطّم على الارض وتناثرت اجزاؤه. وبعد بضعة ايام من انهيار هذا التمثال جاء الى أنطش السيدة شخص درزي
وقال لرئيسه: "يا أبتِ، انا لست مسيحياً، ولكنني عندما أمرُّ من هنا أرسم اشارة الصليب على وجهي وأنظر الى تمثال السيدة العذراء. واليوم أصبحت، كلما مررت من
هنا، أشعر بأن المنطقة حزينة جداً ويتيمة بدون امها العذراء، فهل تسمح لي بأن أرفع مكان التمثال موقتاً صورة لسيدة التلة ريثما يتم انجاز تمثال جديد ليحل محل
التمثال السابق؟". تأثر رئيس الأنطش من كلام الشخص الدرزي، فسمح له بأن يضع بدل الصورة اثنتين، وقد رُفعت الصورتان على علوّ مترين ونصف المتر، وسط فرحة المؤمنين
الذين تنادوا الى صنع تمثال آخر يكون من البرونز او غيره، وقد تكون السيدة العذراء ارادت ان يُرفع لها تمثال جديد بقياس أكبر يليق برفيع مقامها.

دير القمر والبطاركة
كانت دير القمر على الدوام احد المعاقل المارونية الرئيسية. لذلك كان من الطبيعي ان يكون لها حظوة لدى اعتاب المقر البطريركي في بكركي، حتى ان الابرشية المارونية
التي تشمل الشوف والجنوب عُمِّدت باسم "ابرشية صيدا ودير القمر"، وهي التي كان على رأسها منذ امدٍ غير بعيد المطران مار انطونيوس خريش الذي غدا من بعد بطريرك
الطائفة والمنعَم عليه من الكرسيّ الرسوليّ برتبة الكاردينالية.
ومن دلائل اهتمام بكركي بدير القمر ان مكتبتها تحوي وثيقة تاريخية هي عبارة عن مخطوطة تعود الى السابع من نيسان عام 1832 وردت فيها اسماء افراد عائلات دير القمر
المارونية، وهي بخط يد النائب العام الاب ارسانيوس القرداحي المعيَّن وقتذاك للإشراف على انطش دير القمر.
وتحرص بكركي على حفظ الوثائق التاريخية المتعلقة بدير القمر، حيث المخطوطات الاصلية لهذه الوثائق موجودة في مكتبتها، ومنها اعلان موجَّه الى "أهالي لبنان" صادر
عن ديوان نظارة الامور الخارجية يُعلمهم بتعيين داود باشا متصرفاً على جبل لبنان، وجعل دير القمر مقراً للمتصرفية. وهذا الاعلان يشكّل وثيقة ذات قيمة تاريخية
بما انه يشهد على بقاء دير القمر عاصمة للبنان القديم كما كانت منذ عهود الامراء بدءاً من فخر الدين.

البطاركة في دير القمر
كان لبعض بطاركة الطائفة حضور شخصيّ الى دير القمر إمّا لضرورات ودواعٍ في حينه او لترؤس احتفالاتٍ دينية او في سياق زيارة رعائية للمنطقة.
والبطريرك القديس اسطفان الدويهي كان اولهم في المجيء الى دير القمر، ويورد الدكتور جميل جبر ظروف هذا المجيء في كتابه "البطريرك اسطفان الدويهي مجد لبنان والموارنة
"كما يلي: "سنة 1683 مضى البطريرك الدويهي الى دير القمر ليحتمي بالأمير احمد المعني من اضطهاد المشايخ الحماديين وليبتعد عن النزاعات المحلية في كسروان".
والبطريرك الثاني الذي أَمَّ دير القمر هو البطريرك جرجس بن مخلوف بن عميرة الاهدني (1633-1644).  وسبب مجيئه هو أن الامير  فخر الدين المعني الثاني لما دارت
الدوائر عليه خلفه ابن اخيه الامير ملحم ابن الامير يونس. فوجَّه دعوةً الى البطريرك عميرة لاستقباله في دير القمر مركز إقامته.
أمّا البطريرك الثالث في توجُّهه الى "الدير" فقد كان يوسف التيّان، وذلك في مسألة رواها المؤرخ لحد خاطر في كتابه "بين امير وراهب" فقال: "في السنة 1800 كان
الامير بشير ما يزال يتولى الحكم في دير القمر، ينازعه فيه احياناً ابناء الامير يوسف الامراء حسين وسعد الدين وسليم، ومدبّرهم جرجس باز (الديري). وقد نشبت
حينذاك بينهم وبينه حرب شعواء طال امدها وكثرت ويلاتها. ولتلافي ما نال البلاد بفعلها من دمارٍ اتفق الجانبان على التهادن شرط ان يحكم الامير بشير المقاطعة
الجنوبية من لبنان مقيماً في دير القمر، ويكون مدبّره جرجس باز، ويحكم الامراء ابناء الامير يوسف المقاطعة الشمالية من البلاد مقيمين في جبيل، ويكون مدبّرهم
عبد الاحد باز أخو جرجس.
وبعدما تراضيا على ذلك استُدعي البطريرك التيّان سرّاً الى "الدير"، وسار خصما الامس الى الكنيسة ليلاً تحت طيّ الكتمان، فدخلاها ومع كلٍّ منهما أنصاره، ثم
أُقفلت أبوابها ونوافذها واتشح البطريرك بالملابس الحبرية وأقام قدّاساً صمد في نهايته القربان على المذبح بين انوار الشموع، وتقدَّم الامير وجرجس باز فحلفا
اليمين أمامه بأن يُخلص كلٌّ منهما للآخر اخلاصاً لا غشَّ فيه، ثم انصرفا مطمئنَّي البال بعد أن أرفقا البطريرك بحرس يوصله الى كرسيّه دون طنطنة، شاكرَين إياه
على ما كابد في سبيلهما من تعب".
أمّا البطريرك الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي فقد أقام في دير القمر التي جاءها للدراسة اذ كان يتهيّأ للكهنوت، وقد حفظ عن سنواته هذه في "الدير" ذكرى طيّبة
رافقته مدى حياته.
البطريرك مار انطونيوس بطرس خريش كان قبل تسلّمه السدّة البطريركية مطراناً على أبرشية صيدا ودير القمر. وعندما انتُخب بطريركاً جاءه وفد دير القمر للتهنئة
ورجاه ان يترأس احتفال عيد سيدة التلة لتلك السنة بنفسه كما كان يفعل في عهد أسقفيته، فوعدهم بذلك ووفى بوعده.
وآخر البطاركة الذين توجهوا الى دير القمر حتى الآن هو البطريرك السابق الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، فقد زار "الدير" مرَّتين، أولاهما عندما زار منطقة
الشوف تكريساً للمصالحة بين ابنائها بعد الحرب التي عمَّت الشوف، والمرة الثانية كانت خاصة لدير القمر من اجل تدشين تمثال القديسة رفقا الذي أقمناه ببادرتنا
الشخصية في باحة كنيسة سيدة التلة تذكاراً لإقامة هذه الراهبة القديسة في بلدتنا عندما نُقلت اليها لقيامها بتعليم الاولاد التعليم المسيحي والواجبات الدينية،
وعرفاناً لجميلها في مخاطرتها بنفسها لإنقاذ أطفال "الدير" من الذبح في حوادث الستّين في القرن التاسع عشر، إذ كانت رفقا فيها عند وقوع هذه الحوادث.
واليوم تبتهج دير القمر بزيارة رئيس الجمهورية ميشال سليمان والبطريرك الجديد، مار بشارة بطرس الراعي، لها، وسوف يكون ي فيها يوماً مشهوداً.

■ عميد ركن متقاعد

أدونيس نعمه■     

No comments:

Post a Comment